قدم كوبيرك فيلما للإثارة والحركة من خلال فيلم بريق كالكثير من أفلام السينما الامريكية التي نري فيها قاتلا مجنونا أو سفاحا, وهذا ما كانت تهيم فيه شركات هوليوود حبا ولكن من خلال هذا الفيلم العادي والتجاري قدم كوبريك وجهة نظر عميقة وفلسفية لطبيعة المجتمع الأمريكي والأفكار المسيطرة عليه.. ومازالت بالإضافة إلي انه قام بتطوير فني وتكنيكي للسينما, لجأ إليه من أجل توصيل أفكاره بصريا للمشاهد, لقد أصبح هذا الفيلم ذو الصبغة التجارية تحفة في حوليات السينما. دلالات الفيلم تقرأ من خلال الغوص فيما وراء الظاهري البادي للعيان, فالفندق أقيم علي مقبرة جماعية للهنود مثل الولاياتالمتحدةالامريكية( الدولة وليس الموقع الجغرافي), التي قامت علي دم الهنود الحمر الذين ذبحتهم فصائل المهاجرين الاوروبيين ليقيموا دولتهم, وبالتالي فإن هذا الفندق رمز واضح لأمريكا, وعائلة جاك رمز لسكانها. عندما يأتي الطاهي الزنجي لزيارة عائلة جاك, يدخل المطبخ ليفتح ثلاجات ومخازن الفندق ليريهم ما تحتوي خزانته من أطعمة ومعلبات, فهذا الفندق رمز لمجتمع الوفرة الامريكي الاستهلاكي, ولكنه معزول عن العالم الخارجي بجبال الثلوج المتراكمة حوله من كل جانب. وتلك العزلة ليست جغرافية ولا سياسية( في حالة أمريكا) ولكن قيمية, فمازال الامريكيون يرزحون تحت نفس المفاهيم البالية التي قامت عليها دولتهم من وجهة نظر كوبريك. المجتمع يجعل من افراده وحدات مستنسخة نماذج متكررة, نفس الرؤية, نفس الموقف من الحياة, الأمور ليست سوي تكرار لما سبق, مع اختلاف اللحن عبر العصور,( يشير الفيلم لذلك من خلال الزوجة التي تكتشف ان زوجها يكتب نفس الجملة مئات المرات, والزوج يعتقد انه سبق له الوجود في ذلك الفندق من قبل) المجتمع ينسخ افراده علي نفس الشاكلة, بل والأجيال المتعاقبة تتناسخ ارواحها حتي اننا في نهاية الفيلم نري جاك نيكلسون( الزوج المجنون) داخل برواز صورة معلقة في بار الفندق يرجع تاريخها إلي عام1921, اي انه كان موجودا كفكرة تتكرر عبر الأزمنة, كبناء متحجر يعاد انتاجه عبر الأجيال, التاريخ علي الصورة التي يظهر فيه الزوج ذو دلالة شديدة الأهمية,4 يوليو1921 فهو يوم الاستقلال في أمريكا, يوم إعلان قيام الولاياتالمتحدة كما نعرفها الآن الجنون الذي ينتاب جاك ويدفعه للقتل, ليس بجنون ولكنه العقل نفسه( ؟) فهو يقوم اسرته ويرشدها للطريق الصحيح عبر القسوة والقمع السبيل الوحيد لتطهير النفس من الداخل. الوحيدون الذين يمكن لهم النجاة من تأثير تلك النمطية المدمرة في التفكير والقاتلة لأي اختلاف هم.. الأقليات والأطفال, فالأقليات مستبعدة من المجتمع اصلا سواءبالفقر أو بالاضطهاد, وبالتالي فهي غير مقتنعة بتلك الأفكار الديماجوجية حول الأسرة والقيم والامريكية, ولا تنصاع لها او تقع تحت تأثيرها, اما الأطفال فهم مازالوا في طور التكوين ولم تتم لهم عملية غسيل المخ التي تعرض لها الكيس في البرتقالة الميكانيكية فيلم كوبريك, لذا فإن الأقليات والأطفال في الفيلم متقاربون يتخاطبون مع بعضهم البعض عن بعد, ويستشعرون قدوم الخطر كما حدث بين الطاهي الزنجي والطفل الصغير. الطاهي يفقد حياته وهو يحاول انقاذ الطفل, والطفل يحاول ان يهرب هو وأمه فيدخل في متاهة, حيث يطارده الأب المجنون( جاك نيكلسون), يريد تقويمه او قتله. يعد الفيلم أكبر نقد للمجتمع الامريكي من وجهة نظر كوبريك, ذلك المجتمع الذي يدفع بناؤه القيمي, افراده إلي سلوك مجنون عنيف وهم يرون ان ما يفعلونه هو عين العقل, قد يكون هذا العنف اقتصاديا او دينيا او حتي عنصريا فالكل في سباق للتفوق للتميز لاستبعاد الآخر تحت اي مسمي, وما يفعله الأفراد تفعله الدولة, فهي ليست سوي التعبير عن الروح التي تسود المجتمع وتجسيد لمصالح الطبقات السائدة. أما في جانب التكنيك, فإن الكاميرا التي استخدمت في تصوير الفيلم نوع جديد ساهم كوبريك في تطويره وعرفت فيما بعد باسم ستيدي كام وكان هذا هو اول استخدام لهذا النوع من الكاميرات في تاريخ السينما( وان كانت قد اصبحت مستعملة في كل انواع التصوير اليوم حتي خلال المباريات الرياضية) وهي عبارة عن كاميرا تلتصق بجسم المصور عن طريق حامل يربط في جذعه, يمكنه من التقاط الصور بدرجة ثبات عالية, وفي نفس الوقت تستطيع الكاميرا الدوران في كل الاتجاهات وليس حول محورها فقط. سمحت الستيدي كام لكوبريك بانزال الكاميرا قريبا جدا من مستوي الأرض, وتتم حركة الترافلينج بها دون اي اهتزازات عفوية من قبل المصور, وكان كوبريك يصور اللقطة اكثر من عشرين مرة للحصول علي لقطتين او ثلاث شديدة الجودة قبل المشاهدة في المونتاج. من المشاهد الصعبة والشهيرة في الفيلم, هذا المشهد نري فيه الطفل يركب دراجته داخل ممر الفندق والكاميرا تتابعه, مع صوت العجلات علي الأرضية الباركية كان من المفترض في هذا المشهد ان توجد الكاميرا علي بعد سنتيمترات من الأرض وتنتقل بسرعة بالقرب من عجلة الطفل, سواء امامها او خلفها لكن لم تنجح المحاولة في تصوير المشهد عن طريق المصور حاملا للكاميرا, لان سرعته لم تجار سرعة الدراجة, وكانت اللقطة متعبة فتم تثبيت الستيدي كام علي كرسي متحرك تم تطويره من قبل كوبريك وبذلك تمكن المخرج من تحريك الكاميرا بسرعة اكبر ومن علي مسافة قريبة من الأرض, وقد قرر كوبريك ان يزود الكرسي المتحرك بعداد للسرعة بحيث يتمكن من معرفة السرعة التي تم بها تصوير اللقطة, حتي يحدد نفس السرعة في حالة اعادة التصوير( حالة من الدقة المتناهية تصل إلي حد المرض). اما في المشاهد التي صورت داخل متاهة الحديقة حيث كان جاك يجري وراء ابنه وزوجته الهاربين منه فكانت الكاميرا ترسل صور الفيديو مباشرة إلي المونيتور لكي يراها كوبريك, وكانت إعادة اللقطات تتطلب ان يعود الممثلون والفنيون من جديد إلي البداية داخل المتاهة, وهو ما كان شديد الصعوبة, حيث لم يكن من السهل معرفة الطريق دون الاستعانة بخريطة مع استعمال جهاز اتصال. هناك مشهد تتم فيه متابعة آثار الإقدام علي الثلج داخل المتاهة, وصور عن طريق الستيدي كام المحملة علي جذع المصور, الذي زود بقناع للأوكسجين حتي يستطيع التقاط انفاسه المتلاحقة اثناء عملية الجري حاملا الكاميرا, وزود اسفل حذائه بنعل مشابه لحذاء الطفل حتي يترك علي الأرض نفس اثار الإقدام التي يتركها الطفل, حيث أن حذاء المصور اكبر بالطبع, والثلج المتراكم في الفيلم لم يكن سوي مسحوق ابيض, هذه الدقة والإبداع في بناء العمل دراميا عبر سيناريو محكم, ومن خلال ابداع وابتكار في تصوير الفيلم وإخراجه تحول فيلم رعب عادي إلي تحفة من تحف السينما. [email protected]