يقول الشاعر الراحل أمل دنقل في قصيدة( الكلمات الأخيرة لسبارتاكوس):-يا أخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين منحدرين في نهاية المساء وفي بيت آخر يقول: فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق فسوف تنتهون مثله.. غدا ثم يرسم تلك الصورة عن زوجته و طفله قائلا:- فقبلوا زوجاتكم.. إني تركت زوجتي بلا وداع و إن رأيتم طفلي الذي تركته علي ذراعها بلا ذراع فعلموه الانحناء! علموه الانحناء إن تلك القصيدة الرائعة لشاعرنا العظيم بها الكثير من الصور مستلهمة من فيلم( سبارتاكوس1960) للمخرج ستانلي كوبريك(1928 1999), حيث أن نهاية الفيلم تم فيها صلب سبارتاكوس زعيم ثورة العبيد في العهد الروماني علي صليب هو ومن معه من الثوار الذين وقعوا في الأسر( كانت تلك وسيلة قتل الرومان لمعارضيهم) ليموتوا ببطء و ألم, وقد كانت نهاية الفيلم شديدة المأساوية حيث تمر زوجته حاملة ابنه الوليد علي يدها في طريق زرعت علي جانبيه صلبان من الخشب علق عليها الثوار ومنهم سبارتاكوس, لتمر الزوجة أمام الصليب حاملة ابنها بين ذراعيها ناظرة إلي أعلي حيث يوجد زوجها مخفية لمشاعرها خوفا من أن يتعرف الجنود الرومان عليها. لطالما ألهمت الصورة السينمائية مخيلة الشعراء الأدباء وذلك قبل أن تلهم مخيلة السياسيين مع ريجان وإمبراطورية الشر التي استعارها من حرب الكواكب فلقد أصبحت المرجعية السينمائية طاغية علي الغالبية من سكان العالم المتقدم لذا يتخذها الجميع كمرجعية, و لكن ذلك بعد قصيدة أمل دنقل بزمن. لكن ما هي قصة سبارتاكوس هذا الفيلم الملهم. كتب هوارد فاست رواية' سبارتاكوس'ولم تقبل أي دار في الولاياتالمتحدة نشرها,فطبع الكتاب عن طريق اكتتاب عام. تحمس كيرك دوجلاس لتحويل الكتاب إلي فيلم رغم علمة بالماضي الشيوعي للكاتب, بل تعاقد مع أهم ضحايا المكارثية( دالتون ترومبو) والذي كان يحتل قمة قائمة العشرة المستبعدين من قبل لجنه مكافحه الأنشطة المعادية للروح الأمريكية و التي منعت الكثيرين من العمل في السينما الأمريكية بتهمة الشيوعية ليكتب السيناريو, يحاول دوجلاس أن يكتب اسم ترومبو علي عناوين الفيلم, إلا أن شركه'يونايتد أرتستس'ترفض خوفا من ردود الفعل. ولكن قبل نهاية التصوير يتعاقد ترومبو مع المخرج أوتو بريمينجر علي كتابة سيناريو فيلم( الشتات) عن احتلال العصابات الصهيونية لفلسطين, ويتسرب الخبر إلي الجرائد دون رد فعل كبير, فيظهر اسم ترومبو علي أفيشات' سبارتاكوس' رفض كيرك دوجلاس استمرار أنطونيو مان في إخراج الفيلم. فقد كان يري أنه يصلح لإخراج فيلم وسترن وليس لتلك النوعية من الأفلام, فاستدعي كوبريك بعد أسبوعين من بدء التصوير. لم يجد كوبريك إي فرصه للعمل بعد أن أسفر النزاع بينه وبين مارلون براندو عن تركه عمل من بطولة براندو, فقبل الفيلم علي الفور, وصنعه من منظور ثورة العبيد علي أساس طبقي,حيث الصراع بين العبيد وملاكهم من الرومان,صراع بين طبقة تفتقد كل حقوقها وطبقه مستبدة طاغية. ولم يمعن السيناريو في تشريح العبودية كنظام اقتصادي, بل كان تركيز ترومبو الأساسي علي إرجاع سبب ثورة العبيد لبعدهم عن أراضيهم التي انتزعوا منها في سياق التوسع الاستعماري للإمبراطورية الرومانية.وهنا نجد أحد العبيد الزنوج يتحدث عن أفريقيا وقريته,ولا يخفي علي أحد أن تيمة العودة إلي الوطن هي تيمة رئيسية لدي العديد من الكتاب والسينمائيين اليهود, في إشارة واضحة للدعاوي الصهيونية في فلسطين( أرض الميعاد). وقد جعلت الرواية سبارتاكوس يموت في أرض المعركة( وهوما حدث فعلا في الحقيقة). ولكن كوبريك رأي أن يموت مصلوبا,وهي الوسيلة التي كان الرومان يقتلون بها أعداءهم,ورفض ترومبو لما في ذلك من إشارة للمسيح( وليس لليهود بالطبع), ولكن كوبريك أصر لأنه يري أن المسيح مات من اجل خلاص البشرية في حين أن سبارتاكوس مات وهو ينير الطريق لجموع العبيد المعذبين, ويتضح ذلك في قوله الأخير:'سأموت أنا اليوم ولكن سيأتي بعدي الملايين ليسلكوا نفس الطريق'.. وبالتالي افسد كوبريك محاولة ترومبو تحويل العبيد المضطهدين إلي صورة اليهود المضطهدين الراغبين في العودة إلي وطنهم,وكان كاتب السيناريو أضاف شخصية شاب يهودي للأحداث وجعله رمزا للعلم و المعرفة, وجعل لكاسيوس,القائد الروماني, شاذا جنسيا. المهم أن أدوار القواد الرومان أسندت إلي ممثلين إنجليز( لورانس أوليفيية- تشارلز لوتون- بيتر أوستينوف),في حين أن أدوار العبيد أسندت إلي ممثلين أمريكيين,وهو ما اعتبر تحية لأمريكا'وطن الحرية',أو انتقاما من أوروبا التي أضطهد أسلافها الرومان..اليهود, في حين أكمل أحفادهم المسيرة مع معاداة السامية التي انتشرت في أوروبا. السيناريو جعل سبارتاكوس و القائد الروماني كاسيوس في لقائهما, يتحدثان كممثلين لحركة التاريخ التي لا يستطيع أحد إيقافها, فكاسيوس يعلم مدي هشاشة النصر الذي حققه وحتمية نهاية طبقة ملاك العبيد, في حين أن سبارتاكوس يتكلم عن المستقبل, في وقت يقدم فيه علي الموت, وكأنه يعرف مدي حتمية النصر في المستقبل,فتحول الفيلم إلي نوايا و بيان سياسي. إخراج الجزء الأول من الفيلم, شديد الإبداع من حيث استخدام كوبريك الترافليج العرضي بنفس الطريقة التي أشتهرت بها أفلام المخرج الفرنسي ماكس أفولس,وسبق له أن استلهمها في فيلم( القتل),كما أنه استعان بتراث هوليوود الكلاسيكي في تصوير تلك النوعية من الأفلام باستخدام أسلوب التصوير من أعلي والكاميرا المحمولة علي رافعة( كرين),خاصة في المشهد الذي نري فيه الكاميرا تعلو لتتخطي السور الحديدي الذي يحتجز خلفه العبيد,لتحلق معهم للسماء طائرين علي جناح الحرية الذي يراود مخيلتهم. أما الجزء الخاص بالمعارك,فشديد الضعف,ونقلت أجزاء كبيره منه من مشهد معركة الجليد في فيلم' الكسندر نيفيسكي' لسيرحي إيزنشتين,ولكن اللقاءات السياسية بين سبارتاكوس وكاسيوس كانت شديدة الإحكام في تنفيذها. استطاع كوبريك أن يخرج منتصرا من تلك التجربة رغم اتهامه من قبل ترومبو باستغلال أزمته مع السلطات لوضع اسمه علي الفيلم كمشارك في كتابه السيناريو, بمعني أن كوبريك استغل عودة ترومبو المضطهد للسينما من اجل توزيع الفيلم, لكن موهبة كوبريك تغلبت علي صهيونية ترومبو.