من حائط علق عليه ولديه صوره الفوتوغرافية، أطل الشاعر الراحل محمد صالح بوجه تملأه ابتسامة ساحرة، علي حضور كثيف لا يشهد أتيليه القاهرة مثله في معظم الأحيان، جمهور مثقف وعادي، كبير السن وصغير السن، ناس جاءت من المحلة وأخري من القاهرة، ناس أقرباؤه وناس ربما لم تره إلا مرة واحدة، كلهم جاءوا ليشهدوا حفل تأبينه. في الحفل بكي الشاعر محمد فريد أبو سعدة، وهو جالس علي المنصة يلقي بعض من أشعار الراحل، وأخري بكت من مقاعد الحضور وهي تستمع للقاص سعيد الكفراوي وهو يلقي كلمة الدكتور نصر حامد أبوزيد، الذي لم يشارك في الحفل. وقال في كلمته: "في أول زيارة قمت بها إلي مصر عام 2003، استقبلني محمد صالح وقال: متعبتش يا ابن أبوزيد من حكاية إصلاح الخطاب الديني ونقده دي؟، هو إنت تقدر وحدك تغير التاريخ، دا تاريخ طويل؟، ليه متعودش للشعر اللي كنت بتكتبه، دا كان شعر مش بطال؟...كانت هذه هي طريقة ترحيب محمد صالح بي، بدون مقدمات ولا تمهيدات. وأكمل: تعرفت علي محمد في قصر ثقافة المحلة أوائل الستينيات، وقتها كانت لغته تزعجني وكنت أقول له: "ما تتكلم زي الناس"، وجئنا معا للقاهرة التي أغوتنا بعد عام 1967، وكنا نتقابل في شقة جابر عصفور الذي سبقنا للقاهرة، وفيها كنا نتناقش ونتشاجر. بدأ الدكتور جابر عصفور كلمته ببيت شعر للراحل أمل دنقل، هو البيت الذي كتبه في مقال بالأهرام رثي فيه الدكتور سمير سرحان يقول: كل الأحبة يرتحلون ...فترحل عن العين ألفة هذا الوطن، وقال: هذا ما أشعر به، فالفقدان بدأ يحصد جيلنا فردا وراء الآخر، ويبدو أن الذين رحلوا يلحون علينا لنلحق بهم، كنت قد عرفت محمد صالح منذ أن جاء للمحلة للدراسة، وكان يكتب شعرا رديئا، لكنه ظل يكتبه حتي تفتق عنه شاعر جميل، كنا في البداية نسخر من قصائده، إلي أن كتب نصر حامد أبوزيد أولي قصائده ردا علي قصيدة لنزار قباني الذي كنا نكرهه ونعتبره شاعر النهود، فسخر منه محمد صالح في ذلك الوقت، والغريب أن نصر أبوزيد بعدما حدث له في مصر وأثناء سفره للخارج كتب قصيدة ثانية في رثاء نزار قباني بعدما علم أن شيوخ سوريا رفضوا الصلاة عليه". هو "اليتيم"، هكذا يصفه صديقه الناقد الدكتور محمد بدوي قائلا: "كانت رحلة صالح صعبة فهو الطفل الذي توفي والداه أمامه بسبب مرض الكوليرا، فكان عليه أن يبني نفسه بنفسه ولهذا أحب أن نناديه "باليتيم"، حينما دخلت مصر قصيدة النثر اختلف كل شيء، وبدأ محمد صالح يخون آباءه الشعريين ويأخذ منهم ما يلائمه، كأن يأخذ من أمل دنقل لغته الصلبة وجملته ذات البداية والنهاية، وبعد أن كتب محمد قصيدة النثر التي ظل طويلا يقاومها، اكتشف أنه كتب الشعر الذي يريده، ومن وقتها أصبح الشعر لديه صيدا للفراشات".