عندما حصل المؤلف البريطاني /هارولد بنتر علي جائزه نوبل في الادب...وقيمت اعماله المسرحيه ضمن أرقي وأغني الأعمال وأكثرها ثراءا إنسانيا وأكثرها عمقا فلسفيا وقيما روحيه تسامر الضمير الانساني...وتم الاشاده باعماله استنادا علي تأثره وتطبيقه لنظريات الفيلسوف الفرنسي المعاصر (مارسيل بروست)....لم يكن احد يعلم ان هناك هارولد بنتر(المصري) القادم من جنوب مصر...قد استوعب من تراث بلاده كل تلك الافكار والفلسفات وبتلقائيه وسلاسه وبدون اي لفلفات او التفافات او افتعالات.... ومن خلال نص مسرحيته التراثيه الجديده (هاااي يا ليله هوووي)...نجد كاتبنا العبقري يتفوق علي غريمه الانجليزي (هارولد بنتر) في تسخير كل ادوات وامكانيات المسرح لخدمه فكرته وبداهته التي اوصلته الي تطبيق كل هذه الفلسفات بحرفيه وسلاسه....إذ يلتقط مؤلفنا البارع من فم الزمن الجنوبي ثلاثه حكايات علي ازمنه متباعده بينها ...لينسج لنا طاقه رؤيه للتعرف علي ملكات وقدرات الطابع البشري الجنوبي من حيث لم نتمكن من رؤيته من قبل.....فنجده من خلال تلك الحكايات الثلاثه يعقد لنا مناظره فنيه جميله موظفا ببراعه قدراته الخاصه علي اللعب بجغرافيا المكان وجغرافيا الزمان وجغرافيا البشر....انه الثالوث المقدس عنده في كل تلك الحكايات... فيرقص بنا في رشاقه مبهره بين الازمنه الفرعونيه والنوبيه والصعيديه....وفي كل هذه المساحات يكون البطل الاوحد هو خيال البشر الذي ينسج من كل خيوط اي ماساه ...حكايه رومانسيه جميله.....فقلب الجنوبي لا يتسع عنده للاحزان....ومن قسوه معيشته يستمد طاقه رهيبه وتتولد بداخله القدره علي افراز مضادات للحزن وللتعاسه...فتجعله اكثر قدره علي التواءم مع كل ظروف الحياه ومواجهه لها ...والتصدي لكل اسباب البؤس...لكي يصنع (حضاره)....وكما يبني الجنوبي حضارته بال(عماره)....فهو ايضا يخلدها بال(حكايه).....فالموروث المحكي الجنوبي كنز وزخيره لا نظير لها ....انه خبيئه من جنس وصنف فريد جديد....أقرب ما يكون (للجينات الوراثيه)...فعندما وضع الفيلسوف الفرنسي مارسيل بروست نظريته مؤكدا علي ان الخبره الحقيقيه للبشريه وللانسانيه لا تتاتي من خلال التجارب وانما من خلال (استرجاع )تلك التجارب و(اجترارها)...وان تلك الخبرات هي معين الحكمه ....وان اغلبها المنقول المتوارث يكون اشد عمقا من تلك الخبرات الحديثه المنشاء والمولد....لم يكن قد فطن الي جينات المصري الجنوبي أو يطلع عليه كما فطن له مؤلفنا الرائع الشاذلي فرح (أمير الجنوب). هو العاشق بمهاره وحرفه للعبه الزمن....يستقدم الشخوص ويستحضرها كما لو كان صندوق الدنيا ملكا خالصا له ومعه آله الزمن....ليرصد امامنا مقدره الجنوبي علي نسج الحكايه بالخيال....وصناعه الاساطير التي ليس علي البشر القادمون بعدهم الا ان يتقبلوها كما هي....كحقائق ثابته تحدث_أو حدثت _ أمامهم وحولهم...وعليهم وحدهم تقع المسؤليه في ان يستخلصوا ...منها النتائج والعبر....كاتبنا ....لا يقدم لنا فصولا تاريخيه....ولكنه يكشف امامنا زيف التاريخ....وبخفه...ورشاقه.....فهو لا يلعب بالزمن لعبا مجردا في المطلق وبلا هدف....انه دقيق التصويب علي اهدافه بحكمه ورويه....ولا يعرض أو يتعرض للحكايات الموروثه عرضا مسطحا...بل يستحلب منها روح العاطفه ...و هلام جيلاتين الحكمه ....ودون المساس علي الاطلاق بالطابع البشري الانساني لشخوص روايته. يستقدم لنا منظورا جديدا لنفس الحكايات التي تآلفنا عليها زمنا طويلا... ولا يجد في التراث الحكائي الانساني شيئا جديدا قد فات علي مخيله الجنوبي....فهو لم يجد حكايه الا ولها جذور من أصل بلاده ...وكل ما تلا حكايات الجنوب المصري هو محض الحكي بلا هدف ولا ابداع....هو لا يشير باصابع الاتهام الي التاريخ ....بقدر اعلائه من قيم المخايله وخصوبه الافكار وبكاره الحلم في الضمير الجمعي لمجتمعات الجنوب....فعندما رفض الضمير الجنوبي قصه (ياسين وبهيه) علي أرض الواقع مثلا....أفرز بضمير لا وعيه ونسج حولهما (هاله) عجيبه من الرومانسيه التي الهبت الخيال المصري واشعلت طاقات الابداع لدي كثير من الفنانين في مصر لفترات طويله...فنجد المؤلف يستحضر من سجلات الزمن شخص ال(قاتل الحقيقي) للبطل الذي أحببناه لسنين طويله....انها قصه معاصره نسجها بوعي_أو لا وعي_ خيال الجنوبي ....لا تقل بحال من الاحوال في دراميتها عن دراما ماكبث وليدي ماكبث في الادب الانجليزي....وبتلقائيه وعفويه وبساطه دون ان تحتاج الي صنعه مؤلف واديب. كاتبنا يفتح عيوننا علي لوحه من حياتنا وواقعنا لم نكن نستطيع ان نراه الا من خلال نافذته المطله دائما بحب وشغف علي فنون الجنوب.... ففي نفس الزمن الذي وقعت فيه الاحداث الحقيقيه لياسين وبهيه....في جنوب مصر....كان الشمال يلهث منهمكا في احداث مماثله متمثله في ريا وسكينه....وعلي الرغم من ذلك فان مخيله الشماليين لم تتدخل اطلاقا في تبرئه او التعاطف مع هذه الشخصيات ولم تقدر ان تنسج حولهما وشاح الرومانسيه الجميل.....انه الابداع الفطري الغزير الجميل...الذي نسج خيال الفراعين منذ البدئ....وعصب النوبه ....وكل جينات الاجداد التي تنتقل الينا في دمائنا ....ودون ان ندري. هو يفتح علينا طاقه جديده ننظر من خلالها الي واقعنا المعاصر بكثير من التامل والوعي والحكمه.....وننقاش في هدوء وبلا اعصابيه وانفعال كيف تنسج الاساطير.....فكم سمعنا في زمننا الحالي عن ابطال شعبيه تسقط في زمن قصير....في حين ان الابطال الحقيقيين ....قد يجلسون طويلا في الظل ولا يرون النور......وقد لا يحكي عنهم التاريخ الا قليلا....ولربما ينساهم...... فمن الابقي؟!!!!....سجلات التاريخ.....أم روايات الاساطير...؟!!! الحقيقه...؟؟؟......أم الخيال....؟؟؟...والي لقاء اخر حول نفس الروايه.