عرف العالم العديد من ألوان الحروب التقليدية والاقتصاديةوالثقافية والمعرفية والنفسية، وأكثر أنواع هذه الحروب أثرا هي حرب الهوية، تلك التيتصنع أخدودا عميقا بين الوطن والإنسان، وتفتح الباب إلى حالة انفصام بين معتقدات الإنسانالتي تشكل الهوية الرابطة والجامعة له مع غيره ممن يعيشون معه فوق أرض الوطن جغرافيا،ويدركون معا تاريخ حياتهم فوقها بصدق الإدراك له، ويؤمنون بدينهم كما سعوا بحثا عنهعبر التاريخ تفسيرا لمعنى الوجود والخلق، وحسبما وصلتهم رسالاته السماوية، ولا يخلطونبين الرسالة في جوهرها والتفسيرات الوضعية لها، وهذه الهوية تميز الشعوب عن بعضها بعضا،فبقدر اشتراك الشعوب بالعيش فوق الأرض، غير أن التمايز بين الشعوب واقع نشأ من تمايزمكونات الهوية ذاتها. وما كانت الحروب بألوانها رغبات بشرية مجردة، فأولى الوصايا العشرألا تقتل، وحرمة النفس البشرية مقدسة، ولكن الحروب هي صراع مصالح أيا كانت ألوان تلكالحروب أو شرعية تلك المصالح، دفاعا عن وجود أو أطماع تنتاب العلاقات بين البشر. والحرب على الهوية الوطنية الجامعة لأمة، تسلخ الإنسان منمكوناتها، فلا أرض ينتمي إليها ولا وضوح وجلاء للمعتقدات وتتضارب صور التاريخ في رأسهوتتعدد التأويلات فيصير البشر كالزغب تتقاذفه نسمات الريح، وكلما اشتدت الريح تعاظمتحالة انعدام الوزن، فيفقد الأرض ولا يدرك انتماءه إليها، ويفقد الانتماء لمن حوله وتأخذبعقله أوهام وخرافات لا وجود لها، أوهام وخرافات انقلبت على العقل فتنقلب على كل مايجب إدراكه. المشهد في مصر الآن يعاني من حالة من التشرذم الاجتماعي والسياسيوالديني، ولم تكتفِ كل شرذمة بانعزالها عمن حولها لا تسمع غير نفسها، ولكن كل منهاأصابته حالة من الانفصام، فهي تعتقد غير ما تقول، وما تقول غير ما تفعل، ولم تعد الشراذممرشحة للعلاج، ولكنها أصابت الوطن ذاته بحالة الاغتراب عن تاريخه وعصره ومكوناته، وصارفي حاجة إلى عودة الروح. كانت البدايات مبكرة فيما نعاصره، وكما كانت الحالة في عصورالضعف في تاريخنا، عندما يمحو الفرعون اسم سابقه ويضع اسمه، المطلب محو ما سبق بفعلمادي ولكن الفعل المادي لا يمحو الذاكرة، وجل ما يمكنه هو محاولة التشويش من حولها،فيصنع شرخا في مصداقية الفرعون الجديد، ولا يملك الأخير غير الكذب والادعاء ليفرض مايراه الفرعون الإله الجديد. ولم تستسلم الذاكرة وأبدعت إحالة التاريخ إلى حكمة شعبيةهي زاد الهوية وعامل استقرارها على مر العصور، كلما ألم بالوطن خطب استعادتها، وزادتالخطوب من إبداعاتها لتزداد صلابتها، وتمكنت الهوية من الصمود أمام صنوف الغزوات الخارجية،ونجحت أن تأخذ منها ما تملكه من معرفة تخصب به إدراكها، وتدعم شخصيتها، وتصنع لنفسهاإستراتيجية المصالح والنفوذ والأمن، وتحدد أدواتها. المشهد في مصر الآن عبثي لا يرقى إلى مستوى التحديات التيتحيق بالوطن، مشهد يستلزم "عودة الوعي" وبلغة الثورة يستلزم "ثورة فيالثورة"، لمراجعة بديهيات الهوية الوطنية، ليعرف كل حجمه وقدره ويلزم دوره إنكان له دور في مهام وتحديات يواجهها الوطن وليس عبئا عليها.. عجزت جماعة الإخوان عن هدم الدولة، بل إن خداعها للنفس أودىبأن يكشف الشعب حقيقة مقاصدها وتحالفاتها الداخلية المتغيرة حسب ما يقتضيه هدف التمكنمن السلطة، وأيا كان الثمن، وهو ما استدعى تحرك فاق التوقعات ليطيح بسلطة الإخوان،ولم يبقَ أمامها غير الاستعانة بالخارج، وأدواته، واستخدام فيالق الإرهاب الديني ليوجهضرباته في "كعب أخيل" المتمثل في سيناء والتي تحدد أبعاد القوة فيها اتفاقاتكامب ديفيد وملاحقها العسكرية، بغير اكتراث بمضمون الهوية الوطنية والاستقلال الوطني،وخرجت نداءات الاستدعاء لأمريكا والناتو، موازية لنداءات الدم في الداخل، وفرضه واقعاجديدا للعلاقة بين المصريين في كل الربوع. الحروب تستمد مسوغات شرعيتها من أهداف معلنة، شرعية، وقابلةللتحقق، وذات مصداقية تؤكدها الهوية الوطنية ومشروع الأمة للمستقبل كما تتجه إليهاالوقائع، وتتناسب الأساليب والأدوات شرفا مع نبل المقاصد النهائية لها. ولكن الجزء البادي للعيان من الحرب المستعرة، ليس سوى المعاركالافتتاحية لحرب قادمة ستؤثر بالقطع على عالم أحادي القطبية الذي تتصدره عسكريا أمريكا،وإن كانت معاركه الاقتصادية لا تدور لصالحها. المعارك الافتتاحية الدائرة في مصر لا تحمل المسوغات التيتمنح الحروب شرعيتها، فهي تتحدث عن الديمقراطية، وعن الدين والإمارة الإسلامية، وتتحدثعن التعايش وعدم الإقصاء، وتتحدث عن حق التعبير السياسي والاحتكام للشعب، ولكنها معاركافتتاحية مدفوعة الثمن مقدما، حروب بالوكالة كما كان حكم الإخوان حكومة بالوكالة عمنيدفعون ويديرون ويحمون، سواء كانت أجهزة مخابرات تحت ستار حكوماتها أو أجهزة مباشرة،تخطط وترتب وتدفع وتدرب وتورد السلاح وترسل وفود الإنسانية والديمقراطية وتتحكم فيإنتاج الآلة الإعلامية العالمية. ما شهدته القاهرة من وفود للوساطة ترتدي مسوح الديمقراطيةوالخشية على السلام في مصر، هم ذاتهم مبعوثو الشيطان سواء كانوا يعلمون أم هم موظفونلهذا. وعندما يشهد مندوبو الشيطان لجماعة أو أفراد، فلا تأخذ بألسنتهم، ولكن خذ علىأيديهم. إن استباحة دم المصريين في كل محافظات مصر تحت دعاوى الشرعية،تعني بالإطلاق أن مطلب المشاركة معدوم، وأن القصد هو الإقصاء وإن كان بالقتل. إن استباحة حرمة الكنائس ومنازل المسيحيين وأرواحهم، تحملذات المعنى، ولعل رسل الشيطان الغربي يشرحون لدافعي الضرائب في الغرب وأمريكا كيف استباحواالدم المصري سواء كان مسلما أو مسيحيا. إن ما يجري في سيناء هو معركة الوطن البديل للإرهاب العالمي،إنها معركة البقاء أو الفناء لهم ولأجهزتهم، هي معركة ميلاد جديد للدين والوطن والبشر.إنها معركة الوطنية والقومية معا بعد أن سقطت كل الأقنعة، وثبت كذب أولئك يدعون أنهمالقيمون على الدين والإنسان. إن متطلبات تحقيق خطة المرحلة الانتقالية تتطلب تجاوز حالةيد الإرهاب المطلقة الآن تقتل البشر وتخون الوطن، وتجد أن هذا كله حق إلهي لها. الشعب يدرك حقيقة المواجهة وعمقها، وقابل بدفع الثمن، ويدفعهكل لحظة تمر به، وهو يدرك حقيقة وجود الجيش المصري وانتمائه، فهو جيش الشعب، كان الشعبدائما منشأة في مواجهة الغاصب، وكانت اللحمة بين الشعب والجيش هي ما أنتج أن مصر مقبرةللغزاة. إن لحمة الشعب والجيش يجب أن تعي درس تفريط السياسة في نتائجالمواجهة، كما فرطت السياسة في نتائج حرب 1973. وما زلنا ندفع ثمنه إلى الآن. الدبلوماسية ذراع آخر للبندقية، وليست بديلا عنها. ومواجهةالعدو الذي يحمل السلاح، وخلفه ترسانة أعداء الخارج ليست مهمة الدبلوماسية، ولكنهامهمة المقاتلين. الحديث عن حرمة الدم، وعن حقوق الإنسان، تبدأ من حرمة الوطن،وأمن أبنائه ومستقبلهم. إن الفجوة واسعة بين حركة الشعب والثورة وبين التعبير السياسيعنها. إن مصر لا تبحث عن ديمقراطية صماء تعجز عن أن توفي الإنسانحقه وتكتفي بلعبة الكراسي الموسيقية على السلطة. إن مبحث مصر عن نظام سياسي يعبر عن إرادة الأمة ليست صيغةمعلبة تكتفي بالمظهر دون المضمون. إن مصر الثورة لم تنهِ دعائم نظام الفساد الأسبق ولم تتطهرمن رؤوسه وخياراته الاقتصادية والسياسية. ومصر الثورة تحتاج أن تنتج رؤية واضحة لنظامها الاقتصاديالذي يمكنه أن يحقق التنمية والعدالة الاجتماعية، وهي ليست مهمة فرد أيا كان قدره،وهي مهمة سابقة على الدستور القادم كما ظللنا ننادي. ومصر الثورة تحتاج إعادة تخصيب الحياة السياسية داخل الوطن،وأن تتجاوز حالة التصحر والجمود أمام قيادات بلا إبداع ولا ترى سوى ذاتها سبيلا للوجود،مهما ادعت من أفكار أو انتماء للوطن. إن حوار الشعب حول النظام السياسي الذي يرغب فيهيجب أيضاً أن يسبق صياغات الدستور الفنية، إن تجاوز هذه الخطوة لن يساعد على بداياتصحيحة لمهام الثورة. إن الحديث الذي بلغ فيه التجاوز مدى لا يقبله عاقل بشأن العسكريةالمصرية، لن يتوقف أو يصل إلى مرفأه دون عقد مؤتمر حول الأمن القومي وعلاقة الجيش والدولة. إن الحديث عن عسكرة الدولة بمعنى أن كافة المناصب يجرى تعيينعسكريون بها، تعني بالضرورة غياب رؤية حول البناء الوظيفي للدولة، إن التسريح المبكرللضباط هو إنقاص من قدرة القوات المسلحة ويحرمها من خبرات تراكمت، ولكن واقع المواجهةالجديد يفرض استثمار قدرات الضباط وخبراتهم في بناء جيش وطني قوي، وهو في إطار البناءالوظيفي للدولة يتطلب رؤية حول الإمكانات البشرية التي يحتاجها النظام الوظيفي للدولة،والقدرة على قياسها، والوصول بها إلى زيادة القدرة التنافسية بالتدريب. إن غياب التدريب الإداري للخريجين، يضعف من قدرة الأداء،والالتزام بمهام التدريب والإعداد ضرورة للتنمية، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لتجاوزالعجز الإداري ومواجهة الفساد. إن الدخول العفوي للشعب في مواجهة الإرهاب يؤدي إلى ضياعللجهد والقدرة، إن الشعب مطالب بتكوينات "المقاومة الشعبية"، وهي تكويناتيمكنها دون السلاح أن تعيق حركة الإرهاب، وتحاصره، وتكشفه. العديد من العناوين تفرض نفسها بعيدا عن ادعاءات التسامح،وتفرض تناولها بالجدية الواجبة حتى تحقق الانتصار في حركة الثورة. الشعب رفض الجماعة السرية، تكوينا وامتدادا وتحالفات خارجية،ولم يرفض شخص الحاكم ويعزله فقط، وأي مناورة على الشعب في هذا الأمر ستفتح الباب وبحقلتكرار المثال العراقي والسوري في مصر. والذين يفاوضون الآن حول الخروج الآمن لجماعة اقترفت من الجرائمما تجاوز الخيانة العظمى، سيعكس الاتهام على من يعدون بما لا يملكون، لمن لا يستحقون. إن إدارة المرحلة الراهنة في مصر، مطالبة بإعادة ترتيب العلاقاتالخارجية لحساب الاستقلال الوطني وليس على حساب الأمن القومي أو إرادة الشعب. وليدركالجميع أن الشعب حضر ولن ينصرف، وأن عودة الروح للإدارة والأشخاص مطلب جوهري لاستعادةالوطن من غربته