الفوضى السائدة في مصر أعمت دلالاتها أبصارا عديدة، ولم يدركوا حقيقة التحدي. الفوضى في مصر من الادعاء كذبا، إلى بلطجة السلطة والأحزاب التابعة لها، دلالة محاولة مستمرة للي عنق الوطن،وإجباره على غير إرادته. الفوضى في مصر تبدأ من ادعاء الإخوان أنهم تعبير عن الثورة،وادعاء الموالين لهم أنهم يدافعون عن الثورة. الفوضى في مصر هي خلط متعمد بين مهام الفترة الانتقالية للثورة، وبين نوايا الاستحواذ على الوطن. والفوضى بداياتها استخدام ادعاء الإسلام وامتلاك مشروع يحمل اسمه، بينما الحقيقة أن استخدام الإسلام كان السبيل الأمثل لإتمام التجنيد، ثم هو السبيل الأمثل لميلاد فيالق متعددة تنفذ إرادات خارجية لا علاقة لها بوطن وأرض وشعب وهموم تتراكم وأخطار تحيط بكل هذا، وهي لا تحمل رؤية للمستقبل يمكن النقاش من حولها، ولكن الادعاء وتحول "الشخشيخة" إلى"أجراس" تصم الآذان، جمعت من حولها من البشر أسماء وقوى عديدة وقعت ضحية خداع عدم التمييز بين مهام المراحل التالية للثورة وبين مهام الاستحواذ. اتسام المرحلةالحالية بالفوضى واختلاط الأنساب، وإطلاق يد جريمة اغتصاب مصر علانية على شاشات الفضائيات،هي دلالة أيضا على أن هناك نوعا من التمرد يواجه جريمة الاغتصاب، وأن كل الأطراف فاقدة للعلاقة مع المجتمع، وأن الراقصين على الإيقاع لا يعلمون إن كانت رقصة النجاة أم رقصةالموت. كشفت السلطة حقيقة الإخوان، وكشفت الثورة حقيقة الإرهاب المعنوي والمادي الذي يتدثر في عباءة الدين، وكشفت المواقف المتوالية أنهم جميعا لا يدركون معنى المسؤولية تجاه وطن وشعب، بل إن غاياتهم تتوقف عند الاستيلاء على السلطة، وأن قدراتهم أدنى من أن يتولوا أمر مصر، وأن حوارهم مع الآخر لا يتورع أن ينضوي تحت معنى البلطجة. وإذا كان العامان الماضيان قد رفعا الحجاب عن حقيقة ما يسمى بالتيار الإسلامي، وكشفا حقيقة أن منبع العنف من الإخوان،وأن ادعاء الغرب بأن الجماعات الإسلامية إرهابية صار واقعا نحياه في مصر الآن، فإن الفترة الماضية كشفت أيضا حقيقة التصحر السياسي في مصر، حتى إن ما يطلق عليه مجازا المعارضة هي وهم آخر لا يملك إبداعا ولا مشروعا، وكوادره لا تختلف عن كوادر التيارات الإسلامية في عمق الخواء، فكلاهما أبناء فترة التصحر السياسي مهما اختلفت اللغة أو العناوين، واتسمت حركتهم بالبعد عن الشعب، أي جميعهم أبناء ثقافة التعايش البليد الذي أبدعه النظام السابق، وأن الاختلاف الوحيد بينهما أن التيارات الإسلامية تمكنت من بناء تنظيمات وامتلكت المال، وسمح الغرب لها بالتمدد العالمي لحاجة في رأس الغرب وأمريكا،وعندما حان وقت استخدامها امتلكت فرصة التدرب على السلاح وممارسة القتل. ما العمل ؟ سؤال يدور بين المصريين، وتختلط الإجابات بين التمني تحت عناوين باهتة باسم الديمقراطية والقبول بالآخر وعدم القبول بنفي أحد، وبين النزوع إلى أساليب جديدة على المصريين، تتخذ من العنف المضاد طريقا لمواجهة الإرهاب، ولا يتجاوز الحديث أنه كلام لأن العنف ليس اختيارا ولكنه سلوك يجب أن يركن إلى عقيدة، وإذا غابت العقيدة المبررة للعنف خارج الدين، فيصبح الحديث عن العنف مجرد لغو، وليس مبادأة، ولا هو قدرة على حسم الصراع الدائر الآن. قد تفرض الضرورات التي تتولد من حالة الإرهاب حالة من العنف، ولكن هذه الضرورة لا تتجاوز في أهدافها غير الدفاع عن النفس، فتظل حبيسة رد الفعل، ولا تملك رؤية أو إستراتيجية في مواجهة إرهاب تحت راية الدين، ويملك سلطة الدولة ويسعى بلا رادع لامتلاك مفاصلها. سقطت شرعية السلطة القائمة بعد الثورة لأنها اتخذت من الكذب والادعاء والقتل والتعذيب والاعتقال أساليب، وامتلكت الميليشيات تحت مبدأ السمع والطاعة، ونجحت في السيطرة على قمة وزارة الداخلية وتستخدمها.سقوط الشرعية استوعبه من يطلق عليهم حزب الكنبة، ومازال من يطلقون على أنفسهم جبهة الإنقاذ يطالبون بتحسين شروط الانتخابات النيابية؟ وكما قبلوا من قبل الاندراج في انتخابات رئاسية دون وجود دستور حاكم، يقبلون اليوم بانتخابات نيابية تحت دعوى أنهم ديمقراطيون،وكأنهم لم تصلهم صور الإرهاب الجارية فوق أرض الوطن، ولم يستوعبوا بعد حقيقة الأساليب والأدوات التي تستخدمها السلطة، ومازالوا يحملون مطالب لتتحقق برضا الحاكم، حتى وصفهم المصريون أنهم "جبهة إنقاذ مرسي"! الديمقراطية ليست مجرد صندوق وشروط، ولكن الديمقراطية تراكم وتعدد لمراكز القوة في الوطن يعبر عن قواه الاجتماعية، وقدرة ووعي على التمييز بين الادعاء والخداع وبين الاحتياج. في وطن ينتهك فيه حق الإنسان في لقمة العيش ويهرول الإنسان فيه ساعات يومه لتحقيق ما يسد رمقه، ويحكم بالإرهاب ويستمد الإرهاب شرعيته من سلطة تدعي انتماءها للثورة وأنها الحامي لها، يصبح الحديث عن ديمقراطيةالصندوق مجرد خداع، ومحاولة من السياسيين لتجاوز عجزهم. المعركة التي يدور رحاها حول القضاء المصري هي واحدة من معارك الاستحواذ، وهي ذاتها معركة جارية في صمت حول الأزهر والمخابرات العامة المصرية والإعلام والجيش، وإذا كان الجيش قد نجح في عبور بعض المحاولات،إلا أن الحرب لم تتوقف، ومازالت الأمور مختلطة على وعي البعض، ويخلطون بين الجيش الوطني وبين مرحلة المجلس العسكري. تدمير الأنفاق بين قطاع غزة وبين سيناء، دلالة فساد السلطة القائمة، فمحاولة السلطة الجمع بين النقيضين، إسرائيل وحماس، والتزامها أنها ضامن لوقف الصواريخ، جعلها ضعيفة أمام الطرفين، وفرض على الجيش اتخاذ الموقف فيما يبدو منفردا، وتردد السلطة في شأن ضباط وجنود اختطفوا وتأكد وجودهم في القطاع، وعزوفها عن إعلان نتائج التحقيقات في هجوم رفح واستشهاد 16 ضابطا وجنديا مصريا، ثم تردد القرار السياسي بشأن الجماعات المسلحة في سيناء وغيرها، كل ذلك أسقط عنها استيعابها لمظاهر اختراق الأمن القومي المصري، بالإضافة لما يتردد عن إحالة عناصر من المخابرات العامة إلى وظائف مدنية وتسرب ذلك إلى الإعلام ونشره بأنه تنفيذ لمخطط لإزاحة كوادر في هذه الهيئة الوطنية التي لا تتحمل مصر أي خطأ في أمرها أو المساس بهذا الجهاز. إن المواجهة الجارية هي بين مصر، بكل قواها وبين مكتب للإرشاد يحكم وله مندوب بمقر الرئاسة المصرية، حتى أن مهدي عاكف المرشد السابق للإخوان تحدث عن إخراج 3000 قاض لتطهير القضاء، ويجري حزب الوسط (الإخوان سابقا) إلى تقديم مشروع لتحديد سن القضاة،وهو ما يعني إحالة نفس العدد إلى التقاعد، والبديل هم محامي الجماعة يعينون كقضاة. الفوضى السائدة في مصر بين السلطة والوطن، لن تستقر بغير صدام مباشر، فالإغارات بالعنف المتبادلة الآن بين الإخوان وغيرهم، لن تضع أسسا لإزالة الفوضى، بل هي تؤدي إلى تصاعدها كما ونوعا. الموقف الاقتصادي الذي يدفع بوحش الغلاء لينهش جسد الشعب، وبديلا عن توفير "العيش" ووضع تصور يحترم حاجات المواطن ويوفر له أمنه الاقتصادي، يجري استنزاف الشعب بفرض ضرائب جديدة،ورفع للأسعار حتى صار البكاء على أيام ما قبل يناير 2011 هو حديث سائد في المجتمع. مواجهة الفوضى لن تأتي من صانعيها والمتسببين فيها من كافة الأطراف، ولكن مواجهة الفوضى ستأتي من خارجهم. إن الموقف يحتاج لمراجعة مع النفس، تحدد بالفعل مصادر الخطر داخل بنية المجتمع والسلطة بعد يناير 2011، وإدراك أن الثورة ليست سعيا للثأر أو الاستحواذ،ولكن الثورة وهي علم تغيير المجتمع تتناقض مع ما أنتجه الواقع السياسي في مصر. فالإخوان غرباء على الثورة، وكل التنظيمات الدينية كانت ضد الانقلاب على الحاكم، وهنا يجب بحث ترتيب القوى بالمجتمع، وإدراك أن مواجهة غزوة الإرهاب الديني المفلس سياسيا والذي لايملك مشروعا وطنيا، هي استكمال لمواجهة نظام الفساد السابق. إن استمرار الفوضى تستدعي موقفا موحدا من القوى الاجتماعية ومن أعمدة الدولة وركائزها التي يجري تفكيكها. إن سبيكة الوطنية المصرية مطالبة بإدراك حجم الخطر ومصدره بوضوح، وإن الثورة وهي تهدم نظاما سبق لا تسعى إلى اغتيال الدولة، وإننا لا نملك ترف الاختلاف بين قوى مواجهة الإرهاب. الموقف يتزايد وضوحه بتنامي حالة الفوضى، ولكل موقف رجاله، والوعي والمواجهة ليست عبئا يبعث على القنوط، ولكنه عبء يستدعي موجبات قبول التحدي. إن مكونات الدولة وأعمدتها في القضاء والإعلام والأزهر والجامعات والمؤسسات المدنية، والمكونات الاجتماعية من عمال وفلاحين ومهنيين، والقوةالصلبة للدولة في الجيش والأجهزة السيادية، جميعها مطالبة بحرمان سلطة الإرهاب من جهاز الشرطة، ثم تكوين سبيكة من رجال يستطيعون التعبير وبحق عن نداء "عيش، حرية، عدالةاجتماعية"، وليس من سبيل إلى ذلك بغير تحمل الآثار المؤقتة للفوضى الدائرة في مصر، والإصرار على العصيان المدني لسلطة الإرهاب. إن خداع النفس تحت شعار ديمقراطيةالصناديق وعدم الوعي بغياب أهداف الثورة عن المتعاركين حول الصناديق، سيزيد من حدة المواجهة، وليس هناك من سبيل غير منع استخدام الصناديق، والحيلولة دون الانتهازية تحت اسم الديمقراطية. المواقف تنتج الرجال، ومصر أنتجت رجالها لمواجهة المواقف مهما زادت مرارات المواجهة، وليعي الجميع الحكمة القائلة "أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض"