بقلم مصطفى الغزاوي تبرز قيمة القيادة وقدرتها في وقت الفوضى، حين تتشابك الخيوط، وتختلط الأوراق، ويغشى الطريق دخان الحرائق، وتتعطل البوصلة، تبرز القيمة الحقيقية للقيادة، وتصبح "الفوضى الأزمة" مجالا خصبا لتعمل القيادة "رؤيتها" وبالتالي "قدرتها" على إدارة الفوضى دون أن تصبح طرفا فيها أو يؤدي بها وبالوطن إلى تلاطم عناصر الفوضى وما يقول به التاريخ العسكري عن انفلات الرابط الرئيس للجيوش فيما يسمى بالانضباط العسكري، والذي يحدث في أعقاب النصر أو الهزيمة، هو دلالة على المهمة الأولى واستيعاب لرؤية واضحة، إنه دون نظام وانضباط ليست هناك إمكانية وجود للجيوش، وبدون رؤية ليست هناك عقيدة قتالية، ودون الانضباط والعقيدة تتحول حالة الفوضى إلى ما يشبه الانفجار الذري لا يبقي ولا يذر المشهد في مصر الآن يماثل حالة الفوضى التي تعقب النصر، أحاديث تتناثر حول بطولات كانت، وعن مغامرات تمت، وعن قرارات اتخذت وكانت سبب التحول من "الغضب" إلى حالة "الثورة"، ولكن يهيم في الجو العام سؤال: كيف وصلت الحالة الثورية إلى حالة الفوضى؟ ويمتد السؤال على استقامته إلى ما العمل؟ ولا يعني السؤال إجابة تكشف عن مهام مجهولة من السائل ولكنه في طياته نداء بأن تسمعه شيئا يبعث الطمأنينة في النفس ويريحها ويجلب النعاس الآمن، وهذا في حد ذاته يقضي بأن الحالة الثورية قد غابت لغياب في الوعي والرؤية المستقبلية أسئلة كثيرة قد تبدو هي أسئلة اللحظة تسمعها وتجدها من حولك في الفضاء المصري بامتداده الجغرافي والفضاء الذي يغلفه، ومجرد إعمال العقل يقضي بأنها أسئلة خاطئة في لحظة فاصلة مست الفوضى الواقع المادي المعاش وتضاريسه السياسية، ومست أيضا الفكر والشعارات المتداولة، وكما قال السادات يوما : "إن الديمقراطية لها أنياب" مبررا لحملات أمنية وضربات يوجهها إلى الحركة الوطنية، وكما ادعى الغرب أن الإسلام دين الإرهاب في محاولة لإجهاض أي حركة مقاومة للغرب ومخططاته، ولحصار أي فكرة ترتكز على المقاومة، فإن مصر تشهد اللحظة إرهابا من نوع آخر قد يصح أن نطلق عليه "الإرهاب بالديمقراطية"، فتحت شعار الديمقراطية والحرية تجري عملية التوريث الجديدة للسلطة في مصر، ولغياب الرؤية لمصر التي أرادها الشعب في شعاره الذي يعتبر إستراتيجية "الخبز الحرية العدالة الاجتماعية"، صارت الفوضى تمس جذور الثورة وإمكانية تحقيق أهدافها بدأت الفوضى بلجنة البشري وما نجم عنها واستفتاء تقسيم الوطن، وحصار الثورة، وها هي الفوضى تنتهي بمشهد دام بماسبيرو في مواجهة مبنى الإذاعة والتلفزيون بينما المذيعة تعلن أنها مواجهات بين الجيش والأمن المركزي "والأقباط" المتظاهرين أمام المبنى مطالبين بإقالة محافظ أسوان على خلفية أحداث حول بناء كنيسة في إحدى قرى إدفو، ولا تتوقف عند هذا الحد بل يبلغ بها الأمر لمناشدة الأهالي للخروج لحماية الجيش من المتظاهرين لأنهم يقتلون الجنود! تلفزيون ما بعد الثورة يؤجج الفتنة الطائفية، ويخرج رئيس الوزراء ببيان هزيل وكذا وزيره للإعلام، ويتم إعلان حظر التجوال في منطقة وسط القاهرة من العباسية إلى الكورنيش، وتخرج مظاهرات تهاجم المنازل في حي شبرا المكتظ بالمسيحيين، وتنتشر الأقوال عن أتوبيسات تحمل شبابا تخرج من المحافظات إلى القاهرة وعن صدامات طائفية بالجيزة ولا تعلم أين هي الحقيقة، وتنشر المواقع الإلكترونية أنباء عن قناصة يقتلون في الطرفين من المتظاهرين والجيش!، أمام ماسبيرو، وصدامات في الإسكندرية بين متظاهرين ويحطمون سيارات دون هوية ولا سبب، وبلطجية فوق الموتوسيكلات تهاجم محلات وسط البلد بالقاهرة هشيم أضرمت فيه النار، فوضى نائمة تنتظر من يوقظها، هي فوضى أكثر منها فتنة وسبق أحداث ماسبيرو مؤتمر عقد في قنا بصعيد مصر لأعضاء سابقين بالحزب الوطني بقيادة عبد الرحيم الغول يحمونه بالسلاح الآلي، ويتوعدون "احذروا غضب الصعيد"، ويعلنون أنهم سيقطعون الطرق والسكك الحديدية إن تم تفعيل قرارات بالعزل السياسي لأعضاء الحزب الحاكم المنحل هنا ووسط هذا الصخب والدماء تتأكد الحاجة إلى قيادة تستطيع أن تعبر الأزمة، وليس قيادة تثير الأزمة الرعب في نفسها، قيادة تملك تصورا واضحا، ولا تخشى في أمر الوطن إرهابا جاء من أحزاب بلا جذور أو جاء من أقزام حولوا الثورة إلى بوابة للعبور لكرسي الحكم الفوضى تشمل الأحزاب، ولم تعد الأحزاب جزءا من الحل، ولكن حالة العناد والتبجح بلا أي مبرر من الواقع أو الوجود الشعبي، حولتها إلى مصدر للمشكلة وأقزام التاريخ والفكر يطرحون أنفسهم كشخوص بديلة لنظام أسقطته الثورة، وحولوا "شوقهم" لكرسي الحكم دون مرجعية من تاريخ الوطن أو مستقبله، حولوا أنفسهم إلى مؤسسة تقبل وترفض ولا تطرح تصورا لوطن ثار شعبة من أجل "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية وتتردد إشاعة عن تغيير الوزارة، ويبقى سؤال ما بعد الثورة الحائر، هل الوزارة هي القيادة؟ وهل تحتاج مصر تغييرا للوزارة أم تحتاج مصر قيادة تملك تصورا للوطن الذي يريده الشعب؟ الأيدي المرتعشة والنفوس الباحثة عن ذواتها دون وطنها هي السبب الرئيسي للفوضى لقد وصلنا إلى أبواب الترشيحات للمجالس النيابية تحت سطوة المرتعشة أيديهم والغائبين عن حقيقة إرادة الشعب، وكان مقررا لها الأربعاء القادم ولمدة أسبوع ودون استكمال التطهير لعناصر النظام السابق وما يسمونه بالعزل السياسي، وأصبحنا نتحدث عن التوقيتات ولا نتحدث عن لماذا الانتخابات؟ ومن بين من ومن سنختار؟ المشهد يبدو وكأنهم يطالبون الشعب باختيار المستبد الجديد، فإذا ما اختار الشعب ملائكة من السماء في إطار ذات النظام الحاكم، فهو يختار جلاديه، ويقبل بالاستعباد ما دام لم يتغير النظام إنها لحظة الجد، ولا تقبل بهزل الكلمات المغموسة في الجهل إنها لحظة لا تقبل منافقة أحد، ولكنها لحظة يجب أن نواجه فيها أنفسنا قبل أن نقتلها هي لحظة مراجعة النفس، فالبناء الحقيقي لمصر لن يأتي تحت شعارات لا تتجاوز مجرد بغبغة دون واقع معاش، ولا فوق حمام من الدم، ولكنه يمكن له أن يتحقق إذا استوعبنا حقيقة أن الشعب تجاوز بحركته خلال الأيام الثمانية عشرة الخالدة من بعد 25 يناير، تجاوز من اتهموه بقبوله للخنوع وتجرأوا عليه، وتجاوز من دعوه إلى التوقف دون أن تكتمل مطالبه لأن حلم هؤلاء كان دون رؤية الشعب وإرادته، وتجاوز الأحزاب العاجزة دائما عن التواصل معه أو التعبير عنه وتجاوز قياداتها المكتبية، وتجاوز النخبة وصراعاتها وتطلعاتها وأشواقها التي دفعتها إلى أن تكون حبيسة تداول السلطة دون أي تغيير للمجتمع إن لحظة الجد ومراجعة النفس، تفرض عدم القبول بإرهاب تمارسه الأحزاب أو النخبة، ولا تقبل بإرهاب مضاد إن كل حجر يلقيه متظاهر، أو طلقة رصاص تطلق، تكسر الواجهات السياسية الباحثة عن ذاتها دون الشعب صاحب الحق الأصيل في الحياة، والتغيير، والدولة الحديثة لقد كتب ابني الشاب يوما نداء قال فيه : "لا تقل إنك ضد ولكن قل إنك مع"، الشباب يبحث عن البناء والأحزاب والنخبة تبحث عن وراثة السلطة وكل منهم يقول : "إن الحل هو أنا صراع الأضداد والمتناقضات هو درس الثورة المصرية، جامعة مفتوحة، دروس يومية... ما تدفع ثمنه ولا تجنيه... ينقلب عليك درس الثورة الأول... الشعب لا يموت... وإذا أراد الحياة... يستجيب القدر ودرس الثورة الثاني... عندما تختلط الأفكار ويتداعى الوعي... يقفز اللصوص على الثورة ولا يمنعهم دم ولا حاجة شعب وعندما نلهو بالتاريخ وننسى دروس انتكاسة الثورات... تكون المأساة لا تستبدلوا الخصومة ولا تركبوا السيارات بدلا من الأحذية المثقوبة... على حساب مفتوح باسم الثورة الثورة صراع إرادات... وليست أبدا أحلام سلطة زائلة الجوع شرف... واستبداله بأموال وحنايا السلطة الناعمة نهاية لكم... وستبقى الثورة... تولد من رحم الأحزان إن تناول الأمور بجدية، يلزمنا بالعودة إلى ما يمكن تسميته "كود الثورة"، وهو ما اتفق على تسميته "بالشرعية الثورية" والشرعية الثورية ليست كبسولات دواء، ولكنها عملية جراحية، ولا يعني هذا أن نفتح بطن المريض ونقص عظام صدره ثم نتساءل ما الذي نريد؟، ولكن المطلوب أن نعلم ماذا نريد قبل ذلك، لابد أن نملك رؤية تجاه النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني، لا تحولوا الثورة إلى حركة مطلبية، ولا تهدروا فرصة تاريخية فتحت أبواب التغيير، ولا تحاصروا الشباب الذي ثار ضد الظلم والفساد والتعذيب، في لقمة عيشه وأرواحه، ولا تحاولوا إغواءه بعد الحصار بمواقع وأموال، ولن يجدي في مواجهة الشعب استعادة نظام أمن الدولة وغيره من الأجهزة وتوجيهها لضرب وحصار الإرادة الشعبية، حتى وإن ظللت أفعالكم شعارات يرفعها الشعب إن لم يكن أمامنا سوى تجرع السم الزعاف، فليس أقل من أن نموت بكرامة وشرف هذه لحظة القيادة الحقيقية لوطن تعم فيه فوضى الأقوال والأفعال وخرائط الطريق المذمومة، وطن يدرك هويته ولا يريد من يعلمها له أو يسرقها منه، ولكنه يفتقد القيادة والرؤية، فهل يجد الدور التائه فارسه؟