بقلم مصطفى الغزاوي عرفت الإنسانية الحرب أنهاممارسة السياسة بوسائل أخرى، وأنها وجه الدبلوماسية الآخر، وأن غاية القتال هي الوصول إلى تعديل حالة التوازن بين الإطراف المتحاربة لأن الأوضاع في ميادين القتال تعكس نفسهاعلى مائدة التفاوض التي تجمع الأطراف. وصار للحرب علوم تكاد تكون في حجيتها وصرامتها دستور لكل من يرتدي زيا عسكريا، أو يدير أمة ويتخذ فيها قرارا.لم تعد الحروب نزهة، ولم تعد خطابا حماسيا، وتطورت الأدوات لتحقق هدف كسر إرادة العدو،مع الحفاظ على أرواح الجند، وكلما ارتقى إحساس الجندي في الحرب بأنه أغلى وأرقى مافي الحرب، زادت شجاعته ورغبته في التضحية. وتحديد هدف عادل للحرب يحدد مشروعيتها أمام النفس والإنسانية، وترجمة هذا الهدف إلى إستراتيجية عسكرية ومهام للقوات المحاربة وامتلاك الأدوات والتدريب الذي يؤهلها لمهامها يحقق الموضوعية، وتحديد منيتخذ قرار بأنه القيادة السياسية للوطن (الأمير عند كلاوزفتز أو الحكومة المنتخبة عندغيره حسب تطور النظم السياسية) يضع قرار الحرب بيد المجتمع والوطن وليس نزعات طيش عندرجال مدنيين أو عسكريين، ومن يملك قرار بدء الحرب يجب أن تكون لديه القدرة والسلطةعلى اتخاذ قرار وقفها. والقوات المقاتلة يجب أن تشعر شرف المهمة التي تخوض القتال من أجلها، ودعم المجتمع الذي تخرج منه، لتعود إليه منتصرة ليستقبلها معترفا بتضحياتهاويمنحها أكاليل الغار، أو أن تعجز عن تحقيق أهدافها، فيستقبلها معترفا بقصور لديه سواءفي القرار أو المشروعية أو الإمكانات، ويكون لها حاضنا حتى تستعيد القدرة، ليبدأ منجديد ممارسة السياسة بوسائل غير الدبلوماسية، أي بوسائل القتال. وصارت الحرب، أداة الصراع العالمي سواء للسيطرة على مناطق النفوذ والثروات، وهو ما استقر عليه بالمصالح، واحدةمن أهم أسباب البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، لتصبح صناعة السلاح سببا من أسباب القوة، وتصبح تجارة السلاح سببا من أسباب النمو الاقتصادي أو الانهيار الاقتصادي. ولعلصور أثرياء تجارة السلاح لا حدود لها، ولكن المثال الحيوي لمعنى الانهيار نتيجة الصراع على امتلاك القدرة المتوازنة، هي حالة التنافس في حرب النجوم بين أمريكا والاتحاد السوفيتي،وهو واحد من أهم أسباب الانهيار لاقتصادات الاتحاد السوفييتي حتى إن اندروبوف قال قولته الشهيرة عن دعم حركات التحرر ومواجهة أمريكا "نحن على استعداد للتعاون دون أن يطلب أحد منا أن نطعم شعبه!". والعالم اليوم ليس من الملائكة،ولكن تعدد المصالح وتباينها، والأثمان الباهظة للحروب ومستلزماتها فرضت على من يملك القوة أن يجد الممول الذي يستطيع أن يدفع تكاليف الحرب، كأنه مشروع اقتصادي، ولكن الحبكةالسياسية هي خداع الممول لينال أقل ما يمكن من عائداتها، ليستطيع من يملك القوة تحقيق أقصى عائد من استخدامه لأدوات الحرب التي يملكها. وفي عالم اليوم أيضاً يجري تشكيل فيالق متعددة لتقاتل وفق أهوائها لتحقق لأطراف أخرى مصالح لا تراها، فهي تستعذبالقتال وهما ومن يستخدمها يملك إستراتيجية التوظيف وإعادة تشكيل الاهتمامات. ويعاد ترتيب الصراعات بعيدا عن أصحاب المصالح، لتتحول إلى إقليمية، وبأدوات الأقاليم ذاتها،أو داخل حدود الأوطان وفق تعددها العرقي أو الطائفي والمذهبي، وكأن الذئاب تملك قلوبا رحيمة بالأغنام وترعاها وتوفر لها الكلأ والماء وتحميها. صنع عالم المصالح الكبيرةقانونا جديدا للغابة، ويستخدمه، وطاب للقطعان أن تحيا تحت أنيابه، بل وتتنافس على رضا الذئب، ونسوا طبائع الأمور، نسوا التاريخ فوضعوا رقابهم على مذابح المصالح الكبرى،وفقدوا حقيقة الصراع، فصاروا هم القاتل والجلاد، وهم الضحايا. ما يطلق عليه الحرب الأهلية لا يندرج ضمن قوانين الحروب، وزمن الاقتتال داخل المجتمعات للوحدة أو البناء، ذهب أدراج الحربين العالميتين، وانقسم العالم إلى مجتمعات تعي معنى الحرب فتتجنبها، ولكن مصالحها لدى مجتمعات تملك الثروات الطبيعية والجغرافيا ولا تملك قدرة العلم وإمكاناته، فوضعت لها إستراتيجية الاقتتال لتتمكن من السيطرة عليها. ولم تعد الحرب الوجه الآخر للسياسة،ولكن صارت النزاعات الإقليمية أو الداخلية بالاقتتال سبيل استنزاف القوى ونزح الثروات والحيلولة دون النمو والوجود والقوة. الاستنزاف الاقتصادي صورةمن صور الحرب، والبنك الدولي وصندوق النقد صورة أخرى، والحديث عن العولمة والنظام العالمي الجديد صورة ثالثة، واستطراد الحديث عن حقوق الإنسان وازدواجية المعايير بشأنها صورةرابعة، ثم تغذية العرقيات المتعددة داخل الأقاليم أو الطائفية والمذهبية داخل الأوطان،صورة أخرى. ظللنا نحاول أن نحول بين ظاهرةالإرهاب ونسبتها إلى الإسلام، وأيضا أن نحول دون وصف المقاومة الفلسطينية بالذات أنها إرهاب، ولكننا هانحن نكتشف حقائق أخرى بمجرد أن رفعت ثورة يناير الغطاء عما هو كامن داخل أوطاننا. تبدى لنا الآن أن الغرب الذي صنع هذه الظاهرة كان يعلم كيف صاغ عقيدتها، وأن تعامله من بعد انهيار الدولة العثمانيةمع ما صنعه بيديه داخل المنطقة العربية، كان يجب أن يظل حبيس تصوره، واستكمل الغرب تصوره بزرع الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين وأعطوا أرضا بلا شعب ولشعب بلا أرض وأيضا بالإرهاب الصهيوني، وكان يمكن للغرب هذا أن يقبل بنداء القومية العربية لو أن هذا النداء لم يتجاوز مجرد الأفكار ولم ينتقل إلى الواقع، يحاول أن يغيره بمضمون الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة وحق العرب في ثرواتهم. ويضيق البعض بوصف "الاستعمال"لأي من التنظيمات المتأسلمة سواء جماعة الإخوان أو السلفيين، ولكن حقائق الأمور تتكشف لحظة بعد أخرى، والمتغيرات في مصر تؤكد أن لحظات الصعود لثورة يوليو كان الإخوان في موقف العداء بعد فشل محاولات الاستيلاء، وأن حركتهم خارج مصر كانت ضد مصر، وأن صياغة التنظيم الدولي كانت لحصارها، وهكذا كان دور السلفيين في مصر قبل الثورة حيث كانوا أداة إحباط ويحملون فتاوى عدم الخروج على الحاكم طالما هو يسمح بالصلاة في المساجدولم يغلقها. ما يجري في مصر لا يعرف أنصاف التوصيفات، إن لم يتم توصيفه بوضوح قاطع، ستدفع مصر والأمة العربية كلها ثمنا لا تتحمله. ما يجري في مصر لا علاقة له بالثورة أو السياسة، مصر تحت إرهاب يحاول أن يتخفى تحت ظلال الإسلام، كانت البدايات التفافا حول حركة الشعب وثورته، ثم كانت الموجة التالية هي تكفير المجتمع وإهدار تاريخه،والحديث عن شرعية الصندوق، وحقيقة الأمر هو اختطاف السلطة، وعدم امتلاك القدرة على إدارة الدولة، والأخطر عدم الانتماء إلى الوطنية المصرية، ولا يجب أن نقع تحت إرهاب فكرة أن الوطنية تعبير مطلق كما المواطنة، فالفارق جوهري، المواطنة حق لمن ولد فوق الأرض، ولكن الوطنية هي الموقف لصالح الوطن في كافة قضاياه، الوطنية تعني أن الوطن ليس حزبا أو جماعة وأن الحزب ليس وطنا. الإرهاب في مصر يحاصر أعمدة الدولة، ويحاول أن يهدمها لصالح استكمال بناء يسيطر عليه، دون وعي بمصادر الخطر الرئيسية وبدون انتماء للشعب. يحاصر الإرهاب القضاء وزرع داخله أذرع له، ويحاصر الإرهاب الأزهر، كما يحاصر الكنيسة، ويتجاوز ذلك في الاستيلاء على جهاز الشرطة ويضع على رأسه من يأتمر بأمره، ويسعى الإرهاب إلى الاستيلاء على المؤسسة العسكرية، ويغل يدها بامتلاكه للقرار لصالح الجماعات الإرهابية التي نجحت في التسلل إلى مصر وامتلكت السلاح، وتستخدمه، بل إن الإرهاب في مصر يستخدم المال لإعادة توظيف حالة الفقر لصالحه، وليس أدل على ذلك من المشهد في وسط القاهرة ووقائع أحداث جرت أمام القضاء العالي، حيث كانت المظاهرة السلمية تقع تحت نيران أطلقت من نوافذ مكتب النائب العام وتحت إرهاب أسلحة بيضاء يحملها بائعون يفترشون شارع طلعت حرب وميدان التوفيقية وحولوا القاهرة الخديوية إلى عشوائية، وحجم البضائع يكشف حجم الأموال، والتصرف بالبلطجة والسلاح الأبيض يكشف أبعاد العلاقات وتوافق المصالح، حتى إنهم يحمون نائبا عاما سقطت شرعيته بحكم القضاء. والغريب أن هناك خللا في رد الفعل على تقييم ما يجري فوق الأرض المصرية. الخبراء العسكريون يحددون أن هناك تواجدا مسلحا في سيناء ومرسى مطروح في الغرب وفي صعيد مصر، وأن سيناء تعتبر مخزنا للسلاح وسوق بيع بالجملة والقطاعي، وعندما تجري مناقشة كيف يصمت الجيش عن مواجهة ذلك، تكون الإجابة أن الجيش يتحرك وفق القرار السياسي، وهو ما يعني أن هذه الجماعات الإرهابية تتمتع بحماية السلطة في مصر. والخلل هنا في التسليم بما أنتجه الصندوق الانتخابي دون الوعي بخطره على الأمن القومي والوطن. يتمثل أيضاً الخلل فيما يطلق عليه أن الجيش يحمي الشعب ولن يدع الدولة تنهار، ولكننا في مرحلة الدولة الفاشلة وليست مرحلة الدولة المنهارة "هكذا يتحدثون عن أنها علوم في الكتب، وأن أي تدخل الآن سيصفه العالم بالانقلاب!" وكأن الولاية لعالم متعدد المعايير، ويقولون بأعصاب باردة إن كافة الحوادث لم تصل إلى آلاف القتلى في الشوارع؟ هكذا يجب أن يحدث الاقتتال والدم وآلاف القتلى حتى نستعيد مصر من يد الإرهاب، ودعم سلطة القرار السياسي له. إن الحديث عما يجري في مصر أنه تنافس سياسي هو خداع للنفس، إن ما يجري في مصر هو هدم للدولة، ومراجعة أقوال المتحدثين باسم هذه الجماعات يلحظ لغة الهدم والدعوة للقتل واستباحة كل قيم المجتمع، تعرض المجتمع للفساد قبل الثورة، ولكن هويته الوطنية كانت تحفظ قيما وثقافة جرى العدوان عليها، وكان اغتيال الهوية بالتكفير هو الخطوة الأولى لتبرير القتل، والاغتيال المعنوي المستمرسيفرض لحظة الحقيقة، ويجري تصحيح قواعد الاشتباك، وساعتها ستكون مصر بإرادة الشعب الأعزل مقبرة للإرهاب تحت ظلال الدين كما كانت دوما مقبرة للغزاة.