ماذا يُراد بهذا البلد؟ وهل ما يحدث علي أرضه تداعيات طبيعية لمرحلة ما بعد الثورة، أم أن هناك من يريد دفع الأمور نحو الفوضي، لإجهاض الثورة والمضي علي طريق التفتيت والتقسيم؟ هذه الأسئلة وغيرها أصبحت مثارة في كثير من المنتديات والتجمعات والبيوت، بعد أن وصلت الأوضاع في البلاد إلي حد ينذر بالخطر، ويثير قلق الكثيرين من أبناء الشعب!!إن المتابع لتطورات أحداث العنف المجتمعي في البلاد يدرك صعوداً بيانياً علي المستويين الرأسي والأفقي، حيث انتشر العنف في مناطق كثيرة ، ولدي فئات مختلفة، وراح يأخذ أشكالاً متعددة، ما بين عنف فردي وآخر جماعي، تستخدم فيه جميع الأسلحة وأدوات القتال غير المعهودة في مثل هذه الأحداث في وطننا. لقد امتدت خريطة العنف إلي أماكن ومناطق ظلت تتمتع بالأمن والاستقرار علي مدي سنوات طوال ووصلت لغة الرصاص إلي مناطق في وسط العاصمة، وأحيائها الراقية، حيث تندلع المعارك لأتفه الأسباب، وحيث تبدو شراسة البشر في أوجها، وحيث تتراخي القبضة البوليسية بشكل ينذر بخطر كبير علي كيان الدولة الوطنية. إننا ندرك دوماً أن البلطجة لم تغب أبداً عن الشارع المصري، غير أنها ظلت محصورة في أماكن محددة، وكانت عناصرها معروفة لرجال الأمن، وسهل اصطيادهم في أي وقت، غير أن ما يجري في الوقت الراهن هو تمحور هذه الظاهرة لتعم مساحة البلاد طولا وعرضا، ولتتكاثر عناصرها، بإدخال عناصر جديدة ربما لم تمارس البلطجة ولم تفكر فيها من قبل، غير أن انفلات الأوضاع الأمنية، أغري هذه العناصر لتمارس تلك المهمة في ظل غياب القانون والمحاسبة الجادة لتمارس هي أيضاً ذات الدور ولتحقق لنفسها مكاسب مالية كبيرة، عبر ارتكابها لجرائم السرقة بالإكراه، وقطع الطرق وفرض الاتاوات بطريقة تعكس ملامح دولة تمضي نحو الفوضي، تتحكم فيها عصابات البلطجة التي راح يمتد نفوذها ويتصاعد. ولا يخفي علي أحد، أن كميات الأسلحة التي تتسرب إلي البلاد من ليبيا وغيرها، لا يمكن أن تكون مجرد تجارة، يراد من ورائها كسب المال والثروات فحسب، بل إن كافة المعلومات تشير إلي أن تهريب هذه الكميات الضخمة من الأسلحة المتقدمة 'الآلية- الجرينوف- الأربجيه- الصواريخ' هي مؤامرة مقصودة، تستهدف وصول السلاح بأسعار متدنية إلي كافة الفئات المجتمعية تمهيداً لاستخدامه في اللحظة المناسبة. لقد أصبحت قضية المصريين الآمنين في الوقت الراهن أمام تصاعد حدة العنف، هي امتلاك قطعة من السلاح، يحمي كل بها منزله وأسرته، فتزايد الطلب علي التراخيص غير أن هناك الكثيرين تحركوا بسرعة ولم ينتظروا التراخيص الرسمية، فراحوا يشترون الأسلحة من أسواق باتت منتشرة، وربما كان ذلك هو ما دعا وزارة الداخلية إلي إعلان استعدادها لمنح المواطنين تراخيص رسمية، إذا ما قاموا بتسليم الأسلحة التي يملكونها! وبالرغم من المهلة التي منحها المجلس العسكري قبل ذلك لتسليم الأسلحة والتهديد بمحاكمة كل من يمتلك سلاحاً بدون ترخيص، إلا أن ذلك لم يخف المواطنين أو يدفعهم إلي القيام بتسليم أسلحتهم، ذلك أن الخطر الأكبر الذي يحاصرهم لايزال موجوداً، ولذلك يفضلون حماية أنفسهم من القتل أو الاستباحة عبر الاحتفاظ بهذه الأسلحة علي أي شيء آخر. إن الأحداث التي تشهدها البلاد في الوقت الراهن والتي كان آخرها قيام عدد من البلطجية بقطع الطريق علي د.عمرو حمزاوي والفنانة بسمة فجر السبت الماضي وفي منطقة قريبة من محلات 'هايبر 1' بمدينة 6 أكتوبر، تعكس صورة فجة من صور الانفلات الأمني بغض النظر عن أية تبريرات يمكن أن تسوقها وزارة الداخلية أو أجهزتها الأمنية. لقد وعد الوزير اللواء منصور العيسوي قبل ذلك بدوريات لحماية الطرق والمحاور الرئيسية، وبدأت هذه الدوريات تنزل إلي الشارع بالفعل، ثم سرعان ما اختفت فجأة ودون مقدمات، وهو ما يؤكد أن هناك قوي تسعي إلي إفشال خطط الوزير الذي تعهد بإعادة الأمن إلي البلاد خلال أشهر معدودة. إن الأخطر في ذلك هو استمرار بعض القوي والفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة في شن حملة كراهية ضد الشرطة أكثر شراسة عن ذي قبل، وترسيخ ثقافة الاعتداء علي رجال الشرطة وإهانتهم في الشوارع واقتحام الأقسام واحراقها والافراج عن القتلة والمجرمين، وكسر هيبة القانون، وكلها ثقافة تصب في مخطط إشاعة الفوضي والانفلات في البلاد. ويبدو أن هناك بعض الإعلاميين من أصحاب التوجهات المشبوهة والذين تثور تساؤلات عديدة حولهم وجدوها فرصة لاصطناع بطولات زائفة عبر استمرار هجماتهم غير المبررة علي رجال الشرطة، مع أن بعض هذه الأسماء كانت مجرد أدوات في العصر البائد، وكانوا دوما يسعون إلي خطب ود رجال الأمن والتعظيم من دورهم، بل والصمت أمام التجاوزات التي كانت ترتكبها الفئة المنحرفة منهم. وسواء أراد هؤلاء أم لم يريدوا فإن انتشار هذه الثقافة في المجتمع، كان لها انعكاساتها الخطيرة علي الجهاز الأمني، بل وعلي الجهاز القضائي أيضاً، فقد أصبح مجرد القبض علي متهم بالبلطجة أو الاجرام، أو مجرم هارب من تنفيذ الأحكام، كفيلا بأن يدفع الشارع إلي إعلان غضبته، فيتجمع الآلاف من المواطنين الذين يبدءون في ممارسة الضغوط، وإذا لم تتم الاستجابة، تقتحم أقسام الشرطة ويهدد رجال النيابة العامة في أماكنهم، وتبدأ عمليات الابتزاز لاخضاع الجهات المعنية للاستجابة للمطالب وإلا فإن لغة الحرق والقتل والاقتحام تبدو هي اللغة التي يجري التعامل بها. ويستطيع أي مواطن أن يحصر عدد الجرائم اليومية التي ترتكب ؛ ليدرك أن حجم الانفلات الأمني ومعدلات الجريمة وصلت إلي حدود لم تصلها البلاد منذ عقود طويلة من الزمن، والأخطر من ذلك أن عدد ونوعية هذه الجرائم في تزايد وبشكل يعطي مؤشراً خطيراً للأحداث. إن الذين يتحدثون عن تدهور الأحوال الأمنية وانتشار البلطجة والفوضي في الشارع المصري، يعرفون أن هذه الأفعال 'ممنهجة' وهي تتطور لتصبح فعلاً جماعيا يغل يد الدولة ويسقط سلطتها ويجعلها أسيرة لأعمال البلطجة والتعدي علي سيادة القانون. لقد زحفت التجاوزات لتحتل شارعا رئيسيا هو شارع قصر النيل، الذي افترش فيه الباعة الجائلون ببضائعهم، واحتلت الميادين العامة، وراحت سيارات الأجرة وغيرها تمارس دورها في إطار هذه الفوضي، فاقتطعت لنفسها مساحات من الشوارع والميادين، ووصلت تجاوزاتها إلي حد السير العكسي، دون أن يجرؤ رجل مرور علي أن يعترض، ولو فعلها لكان مصيره الإهانة والاعتداء. إن الغريب في الأمر أن الشارع المصري الذي كان دوماً يقف ضد مثل هذه السلوكيات المنحرفة، أصبح الآن إما متفرجاً وإما مشاركا في الاعتداء علي رجال الشرطة، وكأنها حرب لا تنتهي، أو لا يراد لها أن تنتهي إلا باسقاط هذا الجهاز وتفكيكه والقضاء عليه. ضمن هذا الإطار يمكن فهم معني ومغزي محاولات اقتحام أقسام الشرطة، بل ومحاولة اقتحام مبني وزارة الداخلية نفسه، دون أسباب مبررة وموضوعية، وهو أمر يدخل في إطار مخطط يستهدف أيضاً القوات المسلحة والقضاء، وهي كلها- كما نري- مخططات تستهدف إسقاط الدولة المصرية لحساب مخطط إجرامي كبير يهدف إلي تفتيت المنطقة لإقامة ما يسمي بالشرق الأوسط الجديد. وإذا كنا نسلم أن هناك تقصيراً أمنياً، ووجود مخاوف لدي رجال الأمن الذين يعزفون عن استخدام القوة في مواجهة البلطجة والتآمر علي أمن الوطن، فإن ذلك يوجب في المقابل علي الحكومة والمجلس العسكري منح الصلاحيات القانونية الكاملة لرجال الأمن والشرطة لممارسة دورهم في إطار يضمن حمايتهم قانونياً، خاصة أنهم أدركوا أن كل ما صدر من قوانين وقرارات لم تُفعّل بعد، ولم يجر العمل بها في إطار يحفظ لرجال الشرطة حقوقهم القانونية. إنني هنا أتوقف أمام حدثين خطيرين شهدتهما البلاد خلال الأيام الماضية، لندرك دلالة وخطورة ما يجري علي أرض الوطن. الأول: هو حادث 'جرجا'، حيث شهدت البلاد قلاقل أمنية علي مدي عدة أيام، راح ضحيتها أعداد من القتلي والجرحي، وعندما عجز الأمن عن السيطرة علي الأوضاع، زحف الآلاف من المواطنين ليحرقوا قسم الشرطة ويستولوا علي الأسلحة ويهربوا بها. وقد ترتب علي ذلك حالة من الخوف والفزع عمت انحاء المدينة والمركز، حيث تحولت الشوارع والطرق والمناطق المختلفة إلي أماكن مهجورة، ولاتزال حالة الخوف تسود كافة الانحاء، وظل عشرات الألوف من السكان محتجزين داخل منازلهم خوفاً من إطلاق الرصاص الذي بدأ يسود كافة مناطق جرجا. أما الحادث الثاني: فهو الحادث الذي شهدته إحدي مناطق 'المحلة الكبري' عندما تحركت جموع غفيرة من المواطنين لتقتحم منزل أحد البلطجية الذي مارس ارهابه وابتزازه وإذلاله للمواطنين، فأحرقوا بيته، وأمسكوا به، وعذبوه، ثم قتلوه، وقطعوا يديه ورجليه، وسحلوه في الشوارع فرحين مهللين، بعد أن وجدوا في الانتقام وسيلة لاسترداد كرامتهم والسعي إلي تنفيذ القانون بأيديهم حتي يكون هذا البلطجي عظة وعبرة لغيره من المجرمين، وهو أمر بغض النظر عن أسبابه، إنما يؤكد أيضاً فقدان المواطنين قدرة الشرطة علي حمايتهم ومواجهة أعمال البلطجة التي تمارس ضدهم، فقرروا أن يأخذهم حقهم بيدهم، وأن يقدموا للمجتمع نموذجاً أظن أنه سوف يقتدي به في كثير من المناطق نتيجة الإحساس المجتمعي بانهيار دولة القانون. ولا يخفي علي أحد أن عمليات قطع الطرق وتعطيل المواصلات العامة ووقف الإنتاج، كلها تدفع باتجاه انهيار الأوضاع الاقتصادية وهروب المستثمرين والحيلولة دون قدوم السياح إلي مصر، وهي أيضاً كلها أمور تصب في النهاية في صالح ذات المخطط. إن المتابع للأوضاع الاقتصادية في البلاد يدرك أن مصر باتت علي اعتاب أزمة اقتصادية خطيرة، قد تدفع أردنا أم لم نرد في حال تفاقمها إلي ثورة للجوعي تنطلق من العشوائيات لتحطم كل شيء علي أرض هذا الوطن، فتحرق الأخضر واليابس، ويجري فيها 'صوملة' البلاد وإسقاط سلطة الدولة، وإعلان الانفصال للعديد من المناطق والدخول في مواجهات مع قوي الأمن التي ستكون أيضاً في موقف لا تحسد عليه. وأمام انتشار السلاح وزيادة حدة الاحتقان المجتمعي، وانتشار ثقافة العنف، وعدم القدرة علي الوفاء بالمتطلبات الحياتية، سيكون الطريق لهذه الثورة مفتوحاً، وهو أمر ينذر بخطر كبير علي أمن البلاد والمواطنين. إن الذين يراهنون علي الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة كوسيلة لعودة الأمن والاستقرار واهمون، فالخوف كل الخوف أن تكون هذه الانتخابات هي الفرصة المناسبة لإشاعة الفوضي واندلاع أعمال واسعة للبلطجة المجتمعية التي لن تقتصر علي عشرات أو مئات الآلاف من البلطجية، بل ستعم أوساطاً كبيرة من المجتمع الذي أغراه غياب سلطة الدولة بالشكل الفاعل والقوي. إن المطلوب حالياً هو وقف كافة مظاهر الانفلات والاعتصامات غير المشروعة، وإنهاء الخلافات السياسية المتصاعدة بين القوي المختلفة لحساب هدف واحد ووحيد، هو إعادة الأمن والاستقرار إلي البلاد ووضع حد لهذا الانفلات الأمني والأخلاقي الذي يهدد وحدة الوطن في الصميم. وفي مقابل ذلك يجب تفعيل العقوبات بقوة ضد عمليات قطع الطرق وتعطيل وسائل الإنتاج وارتكاب أعمال من شأنها إشاعة حالة من عدم الاستقرار في كل انحاء البلاد. وإذا لم تتحرك الجماعة الوطنية، وتضع حداً بين الحرية والفوضي، وإذا لم تواجه الإعلام المأجور والمنفلت، فسوف يدفع الوطن بكل فئاته الثمن غاليا، والثمن لن يكون فقط إجهاض الثورة وأهدافها، بل ضياع الوطن وانهيار مؤسساته وسيادة الفوضي في البلاد.