الحالة السياسية في اللحظة الراهنة أقرب إلى حالة اختلاط الأنساب، الأصلاب متعددة أو مجهولة والأرحام تلفظ الأجنة مبتسرة غير مكتملة النمو، ويبدو الوطن غائبا عنه الأمن والمستقبل والثورة. لم أكد أبدأ كتابة المقال حتى تواترت الأنباء حول هجوم من ملثمين على نقطة أمن على معبر رفح، مع توقيت الإفطار، واستشهاد 16 جنديا مصريا على الحدود مع إسرائيل وقطاع غزة، وهروب المهاجمين باتجاه رئيسي إلى قطاع غزة، بينما تولت القوات الإسرائيلية التعرض للهاربين ودمرت إحدى المدرعات التي استولى عليها المهاجمون. تحولت الثورة المصرية إلى حالة من التفكك السياسي، وصارت النتائج التي ترتبت على الثورة تتوقف عند مجرد الكشف عن عوار الحالة السياسية، وخروج طرفين داخل المجتمع يتربصان ببعضهما، الأول يسعى داخليا لهدم الدولة، والآخر يدعو إلى حرق مقار جماعة الإخوان ومقار حزب الحرية والعدالة. الخطر يتجاوز الداخل إلى المحيط العربي حيث لا يمكن الفصل بين ما يجري في الداخل عن الآثار المترتبة على الأحداث في تونس أو ليبيا في الغرب والسودان واليمن في الجنوب وسوريا في الشمال الشرقي، فهذا كله وامتدادات العمق فيه هو نطاق الأمن القومي المصري. التحول داخل مصر انتقل وبإصرار من تيارات الإسلام السياسي، والتي وجدت الساحة خالية لها في أعقاب وقائع الثمانية عشر يوما الأولى للثورة، ووجدت من المجلس الأعلى للقوات المسلحة أبوابا مفتوحة، في تناقض مريب لخبرة التعامل السابق معها، ولتاريخها، ولكن هذا ما جرى. وأطلقت هذه التيارات شعارات التحول إلى الدولة الدينية واستخدمت كل الفرص المتاحة أمامها لتطويع الظروف التالية للثورة لتحقيق الوجود لذاتها وإحالة الثورة إلى متوالية الاستيلاء على السلطة، لتتصاعد بالمواجهة إلى الاستيلاء على الدولة ومقوماتها، أو هدم هذه الدولة إن تطلب الأمر غير عابئة بما يمكن أن يترتب على ذلك. الأمر الأول أن هذه التيارات لم تطرح تصورا سياسيا، ولكنها اتخذت من الخطاب المستتر بالشعارات الدينية بديلا عن الخطاب السياسي. والأمر الثاني أنها استخدمت توافقا بينها وبين المجلس العسكري، لحصار الثورة وضربها، حتى تتمكن من الساحة منفردة، وبعد أن لاح التمكن عبر مسيرة الاستفتاء ثم الانتخابات النيابية، انقلبت على المجلس العسكري ذاته، وصارت هي مصدر المطالبة بإسقاط حكم العسكر بعد أن كانت تدينه حين كان يصدر من غيرها فترة التوافق بينهما. ومكن لهذه التيارات والإخوان في الصدارة منها، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ارتكب خطأ عدم استيعاب مطالب الجماهير في الثورة، وتوقف في رؤيته عند حدود التخلص من أمر التوريث، ولم يكتشف، أو هو كان يقصد!، أن المسار الذي يسلكه يفتح باب الاستحواذ أمام من لا حق لهم في نتائج الثورة فضلا عن كونهم كانوا خارجها. ولم يتوقف عند هذا المدى بل وضع نفسه في مواجهة بالسلاح مع حركة الشباب والعناصر التي ظلت تطالب باستكمال مطالب الثورة بما فيها تسليم السلطة، فصار الخندق الذي يهدر الثورة يضم كلا من التيارات الدينية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، في مفارقة يدفع فيها الوطن الثمن الآن عند اختلافهما، وصار الاختيار بين الطرفين مصدرا للحيرة وكأن التساوي بينهما أمر يقبله المنطق. ولم تكن الحالة الذاتية لباقي الأطراف مهيأة لمواكبة الوقائع التي تجري على الأرض، وصارت المواقف ردود أفعال تتخبط ولا تستطيع أن تقيم توازنا مع أي من الطرفين، الإخوان والمجلس العسكري. الخطر تجاوز إهدار الثورة ومطالبها، أو الاستحواذ على السلطة، أو حتى اختطاف الجمعية الوطنية للدستور والعبث بكل معاني يتطلبها التوافق الوطني، ووجدت التيارات الدينية أنصارا من خارجها، يلوكون الكلمات دون الانتباه إلى حالة التدحرج بالدولة والوطن إلى هاوية الاقتتال الداخلي. تجاوز ذلك كله إلى تهديد الوجود ذاته. وفتحت وقائع الهجوم على معبر رفح ومقتل 16 جنديا بابا جديدا للفتنة، فالبعض استخدمه ذريعة للدعوة لحصار مقر الرئاسة، واتفق في هذا بعض من بقايا النظام السابق (الفلول) وبعض من عناصر تنتمي لتيارات مدنية، وجدت في الحادثة مبررا لتقديم موعد نداء سابق لحصار مقار الإخوان يوم 24 أغسطس. بينما اتجه البعض الآخر إلى إدانة أداء المجلس العسكري والأجهزة الأمنية، والبعض الثالث ربط بين الهجوم وبين نمو سيطرة التيارات الدينية على السلطة وإطلاق يدها في الداخل وطبيعة العلاقة بين حكومة حماس والإخوان في مصر، ليتجاوز الأمر الفتنة بين مكونات المجتمع إلى تهديد الأمن القومي. الأمن القومي ليس مجال صراع سياسي أو حزبي، الأمن القومي يرقى إلى مستوى العقيدة الوطنية، وعندما تختلط الأنساب لمن يتولون أمر القرار السياسي، أو قرار الدفاع عن الوطن، ويتصاعد الصراع الداخلي حتى تحجب أدخنته الرؤية وتمييز المواقف، هنا يكون الخطر قد تجاوز مجرد التهديد، إلى تحقيق ناتج انهيار الرؤية، وانهيار نظرية الأمن. إن الخطر يتمثل فيما يلي وبوضوح يستدعي المكاشفة: أولا: أن خللا أساسيا أصاب مفهوم الأمن القومي بذلك الخطاب الذي تستخدمه تيارات الإسلام السياسي، والخلط المتعمد بين مفهوم الاستقلال الوطني وبين مفهوم مضغم للخلافة الإسلامية، وانحسار تحديد العدو الصهيوني كمصدر رئيسي للخطر الخارجي، والاكتفاء بمجرد فتح المعابر والتعامل القشري مع قضية الصراع العربي الصهيوني، وحصره في مجرد إجراءات رفع الحصار عن قطاع غزة وبخطاب سياسي أدى إلى ردود فعل شعبية معاكسة للموقف الوطني المصري من قضية الصراع العربي الصهيوني. وزاد من الأمر انعدام الثقة في جماعة الإخوان واحتمالات مواقفها في هذا الصدد، حتى أن حديث إسماعيل هنية عن مخططات الأراضي البديلة كان مثارا للرفض أكثر من القبول، وترددت مقولة تتساءل عمن هو حتى يقبل أو يرفض شأنا يمس الأمن المصري والتراب المصري؟ وهي لغة جديدة على الواقع الوطني المصري، ولكنها نتيجة ذلك الاندفاع المهووس من الإخوان تجاه حديث عن غزة وكأنها هي القضية الأولى للثورة المصرية. ثانيا: أن خللا أصاب العلاقة بين جماعة الإخوان ومكونات الدولة المصرية، وتمثل ذلك في الموقف من الجيش والقضاء والأزهر والصحافة، بل إن حديثا من أحد العناصر القريبة من مركز اتخاذ القرار اتجه إلى تأكيد جملة الإشاعات التي قالت إن الفريق شفيق هو الفائز وإن وحدات عسكرية اتخذت أوضاع التأمين له ولمنزله وفق مقتضيات هذا الموقف، غير أن تهديدا بأن ذكر اسم شفيق في إعلان النتيجة في الاستفتاء على منصب الرئيس سيكون كلمة السر لانطلاق عمليات اغتيال سياسي لأعضاء مجلس الشعب الأسبق، وبمعنى آخر المساس بالعصبيات العائلية والقبلية، وبقتل عناصر من الثورة، وبحرق للكنائس، والهجوم على ماسبيرو واحتلال مقر الإذاعة والتلفزيون وخامسا بدء عمليات عسكرية في سيناء وضد إسرائيل مما يفتح الباب أمام مواجهات عسكرية، وأن هذا التهديد وجد من يقبل به، وهو أمر إن صح، فإن الخطر تجاوز الصراع السياسي إلى لغة الصراع المسلح، وأن الوطن لم يملك القدرة على مواجهة ذلك سوى بالتزوير؟!، فهل وصلت مصر الدولة إلى هذا الحد؟ وهل مثل هذه الأقوال أو الإشاعات لا تستوجب ردا عليها ومكاشفة للشعب؟ ولمصلحة من يجري إهدار المؤسسة العسكرية إلى هذا الحد؟ وليس خافيا الموقف من القضاء، حتى أن الرجل الذي كان محسوبا يوما على تيار استقلال القضاء، والذي انحاز في مواجهة ضد المحكمة الدستورية، صار وزيرا للعدل، وفي الوقت ذاته يضرب مجلس الشورى عرض الحائط بكل الملاحظات حول موقفه من الصحافة المصرية. ثالثا: أن الرئيس المنتخب لم يعط أي اعتبار لنداءات تحرير المحكوم عليهم من عناصر الثورة بواسطة القضاء العسكري بينما اتخذ قرارا بالعفو عن عناصر تنتمي للتيارات الدينية. وهو أمر زاد من الإحساس بأن الرجل ينتمي بالأساس إلى جماعة دينية، أكثر من كونه رئيسا للمصريين، حتى أن مصادر كثيرة تحدثت عن أن القرارات تصدر من مكتب الإرشاد وليس من الرئاسة. رابعا: أن الموقف من المؤسسة العسكرية المصرية وهي القلب الصلب للدولة يزداد تطرفا وهو ما يمكن أن يؤدي إلى انشقاق في الدولة يتجاوز القدرة على التحمل، حتى أن الوعي بدور الجيش في الدولة يجري إهداره تحت عنوان رفض حكم العسكر، ويرفع تنظيم الإخوان كما باقي القوى السياسية، أن حكم العسكر يمتد 60 عاما، وهو أمر له أثره الجوهري حول مفهوم الأمن القومي ومعنى المواجهة مع إسرائيل وبالأساس له أثره على العقيدة القتالية للجيش المصري. وبلغ الأمر حد تفسير سريع في أعقاب هجوم رفح أن الغرض الرئيسي منه هو التخلص من قيادة الجيش الحالية، كما كان أمر اختراق الطائرة الشراعية للميدان الأحمر في موسكو زمن جورباتشوف مدخلا لإقالة قائد الدفاع الجوي بالجيش السوفييتي وبداية الانهيار للإمبراطورية السوفييتية. خامسا: أن الاتصالات السرية مع أمريكا وغيرها تمثل عنصر اتهام مستمر لغياب المكاشفة عن مضمونها، حتى صارت اتهامات التبعية والخنوع التي فجرت الثورة ضد النظام السابق صارت ذاتها اتهامات موجهة للإخوان بأنها تستمد شرعيتها من القبول الأمريكي بها. سادسا: عدم إدراك حقيقة ما يجري فوق الأرض السورية والتعامل الخبري معه دون إدراك أن سوريا هي البوابة الشرقية لمصر، وأن المستهدف يتجاوز إنهاء نظام مستبد، إلى إنهاء الدولة السورية ذاتها. ذلك كله يؤكد أن الحديث عن قوى الثورة وقوى مضادة للثورة صار حديثا خارج السياق، أن الخطر لا يحيق بالثورة وأهدافها بل الخطر يحيق بالوجود الوطني ذاته. إن الشعوب العربية في ثورتها ضد استبداد النظم الحاكمة، كشفت عن افتقاد الرؤية الوطنية البديلة والتي جرى انتهاكها طوال أربعين عاما مضت، وأن العناصر التي خرجت ضد الاستبداد والظلم الاجتماعي، فتحت الباب على مصراعيه أمام مخططات كانت جاهزة للتفتيت والتقسيم الطائفي والاجتماعي والجغرافي، وأنها وهي تسعى للمستقبل وقعت فريسة قوى الماضي التي لا تدرك غير كرسي الحكم هدفا لها، دون وعي بالحقائق الوطنية والقومية للوجود العربي، الأرض والإنسان فوق هذه الأرض. عندما تكون القضية الثورة يكون الفرز الاجتماعي هو محور الصراع، وعندما تكون القضية هي الوجود ذاته، تكون الوحدة الوطنية مبرر البقاء، ولكن الأمة العربية ومصر فرضا عليها أن تخوض قضية الوجود وبالقوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الأساسية للثورة، وهو أمر شديد الجدية بما لا يفتح أبواب التأويل، الأمة تعبر أحرج اللحظات في تاريخها، وهي قادرة على العبور كلما زاد اليقين واللحمة بين القوى صاحبة الحق في التغيير والساعية إليه. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية