بقلم مصطفى الغزاوي يموج فضاء مصر بكلمات وشعارات ومراهقة ثورية وانكشاف للسحر الأسود، جعجعة بلا طحن، والثمن يدفع من رصيد الزمن والشعب والثورة، ويزيد من جرعة الألم والتضحية الواجبة لتحقيق مقاصد الشعب وحاجاته أطلق اسم "جمعة النهاية" و"جمعة الزحف" على يوم 4 مايو، وجرى استدعاء المتظاهرين إلى ميدان العباسية بالقاهرة لحصار مبنى وزارة الدفاع شهد الميدان قبل يومين هجوما دمويا على المعتصمين، قتل بدم بارد، وذبح من الرقبة، وتشويه جثث القتلى، وكان الأمر إيذانا بضرورات الثأر، واحتمالات اتساع المواجهة. ذات السيناريوهات التي جرت من قبل طالب أحد مشايخ السلفيين "حسن أبو الأشبال"، المتظاهرين باقتحام مبنى الوزارة والقبض على أعضاء المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة "وإعدامهم"!! وذهب إلى مقر الاعتصام محمد الظواهري في ثلة من الملثمين. انضمت إلى المظاهرة جماعات غير دينية تحكمها رومانسية ثورية وصلت إلى حد المراهقة الثورية، ليصبح المشهد أكثر هزلية، وكأن حالة من الغيبوبة أصابت الثورة والثوار توقع الانفجار كان قائما، وكانت الخشية أن يؤدي، وعلى غير طبيعة الشعب المصري، إلى حرب أهلية في واقع هش، وكان مرد ذلك هو حرب الاستنزاف التي دارت رحاها في مواجهة ثورة الشعب المصري طوال الفترة الانتقالية، أدارها المجلس العسكري، وكانت الجماعات الدينية أدواتها، إلى أن ظهرت صراعات السلطة داخل المعسكر المضاد للثورة، نتيجة المحاولات المستمرة من الإخوان للاستحواذ الكامل على مقدرات مصر، وانطبقت مقولة غاندي "كثيرون حول السلطة وقلةٌ حول الوطن" ويمكن وصف هذا اليوم بأنه "جمعة تراكم الفشل" الابتعاد عن الثورة وأهدافها: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، وانكشاف الغطاء عن فراغ وتصحر الواقع السياسي في مصر، وواقع التنظيمات القادمة من الظلام بلا مشروعات أو قيادات سياسية، دفع بالحالة المصرية إلى "الخيار شمشون"، تهدم المعبد "الدولة"، على كافة الرؤوس، وتلقي بالوطن إلى المجهول الذي لا يقل ظلاما عن النظام السابق ذهبت كافة التيارات والجماعات إلى الخيار شمشون عندما استبدلت مسؤوليات تلزمها بوجود رؤية سياسية كأساس للوجود في معسكر الثورة، إلى تحديد خصومات جديدة جسدت في مجموعها حالة انقلابية أكثر منها حالة ثورية واستبدلت وضع إستراتيجية وطنية للثورة، تجمع قواها الاجتماعية وتحشدها، بحالة إقصاء وإدانة بين أشباه القوى السياسية التي ابتليت بها مصر، وبين النخبة المهزومة، وجرى التعامل مع الشعب على أنه مجرد صوت في صندوق، يجري استخدامه لصعود سلم السلطة، وصارت "الديمقراطية" والسلطة "المدنية" هي قمة أدوات الخداع تراكم الفشل في إدارة المرحلة الانتقالية كانت بداياته فشل المجلس العسكري في إدارتها قياسا على المهام المطروحة، وأقام تحالفات لا تعبر عن حقيقة المجتمع المصري، وفتح الباب على مصراعيه أمام جماعة الإخوان وتمكينها من مشاركته في القرار، وتوصلا إلى صفقة "الوجود للجماعة" مقابل تفريغ الحالة الثورية التي كانت في ذروتها وتنازع هذا الخيار مع القيمة الوطنية التي يمثلها الجيش المصري، كنواة صلبة للدولة المصرية، في واقع تحيط التهديدات ومصادر الخطر الخارجي كل الحدود المصرية، وأصبح المجلس العسكري طرفا في خصومة مع الثورة، وجرى حساب تحالفه مع الإخوان والسلفيين منذ تشكيل لجنة التعديلات الدستورية، ثم أداءاته في مواجهة المظاهرات والاعتصامات، وجرى حسابه ضمن المعسكر المضاد للثورة لم يكن متوقعا أن تصل العلاقة بين المجلس والتنظيمات الدينية داخل معسكر الثورة المضادة إلى المواجهة المسلحة بهذه السرعة، وبهذا القدر من المغامرة إلى حد المقامرة بنزوع التيارات الدينية بطبيعة التكوين إلى تلك المواجهة، وكانت ليلة الخميس/ الجمعة أشبة بليلة إعلان الحرب ويحاول البعض قراءة المشهد بأن المجلس العسكري أدار مناورة واسعة، هدفها كشف الواقع بكافة مكوناته من جماعات وأحزاب وأفراد أمام الشعب، وأنه راهن على أن كشف الواقع هو السبيل السلمي لتحديد الأحجام والقيمة، ولكن هذه الرؤية يعيبها أنها محاولة لإضفاء الحكمة بأثر رجعي على أداء متردد للمجلس العسكري، حيث استبدلت إرادة الشعب في التغيير وتحقيق أهدافه، بإجراءات غير مكتملة الأركان ما أدي إلى الفوضى السياسية والقانونية والفراغ الدستوري القائم الآن، وفتح المجال لأي مدع للحكم على كيف يكون لمصر دستورها بعد الثورة ورغم أن تراكم الفشل وتعاظم الأطماع أديا إلى شرخ في معسكر الثورة المضادة، إلا أن رومانسية عناصر شباب الثورة وعدم اكتمال النضج السياسي لرؤية تحدد ما تريده الثورة وتفرضه من مهام، أعطى قبلة الحياة لعناصر الثورة المضادة، ففقد مطلب تسليم السلطة إلى سلطة مدنية النصف الثاني من المعادلة، وهو الإجابة على سؤال أي سلطة مدنية؟ وهل الإجابة على كيف؟ تكون بانتخاب لرئيس؟ ومن هو الرئيس وما معايير الاختيار ومن أين أتى المعروضون على الشعب للاختيار من بينهم؟ وجرى انحراف بمعنى السلطة المدنية بأنها ليست سلطة عسكرية أو دينية، بديلا عن المفهوم الأساسي لها بأنها دولة يحكمها الدستور والقانون، ويتساوى الجميع أمامه، ولم يسع أحد إلى إقرار دستور للدولة، وصار التعامل مع التشريع تعامل تتحكم فيه الأهواء، كما تتحكم في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور وفي مضمون الدستور والتشريعات، وجملة هذا إهدار لمعنى الثورة بل قتل للدولة أشد وطأة من الدم المسال فوق الإسفلت استبدلت المسؤوليات السياسية والدستورية الواجبة لتحديد ماهية الدولة المدنية، إلى إجراءات وتوقيتات فارغة المضمون تحمل الشكل أكثر من المعنى، وصار المطلوب ملأ الفراغات، وأي حديث غير هذا يجد آذانا صماء، ولا يجد عقلا يستوعبه. وبديلا عن وضع الأطراف عند مسؤولياتها، جرى الانحراف بالمطالب الوطنية إلى مجرد لغو القول، ويمارسه الجميع بلا استثناء. وعجزت الأطراف المشتبكة مع الواقع والأحداث عن تحديد الحل لما تواجهه الأمة. الكل بلا استثناء يصنع المشاكل برعونة، ولا يطرح حلولا لها، وكأنهم فقدوا القدرة على التعلم، وبدلا من أن يكونوا "حلا" صاروا في حد ذاتهم "مشكلة" ويعلن المتحدثون باسم الإخوان يوم السبت أن الجمعة القادمة مظاهرة واعتصام إلى حين إعادة تشكيل المحكمة الدستورية، ومن ثم تغيير رئيسها، وتبعا لذلك تغيير رئيس لجنة الانتخابات الرئاسية، دعوة جديدة للانقلاب واستنزاف جهد الثورة في تصحيح ما صنعته أيديهم طوال الفترة الانتقالية، وحقيقة الأمر أنها محاولة لتحسين الوضع التفاوضي مع المجلس العسكري بشأن القادم من مواجهات كشفت جمعة تراكم الفشل قدرة الجيش على الحسم السلمي لحالة التظاهر والاعتصام، نعم له ضحاياه، ولكن الحدث لم يعد مفتاحا إلى حرب أهلية، ولم يتحقق ذلك بمجرد أسلوب تحريك التشكيلات، ولكن أيضاً بالاستخدام الأمثل للمناخ المتاح فالتوجه إلى وزارة الدفاع جاء في سياق تصاعد عناد مرشح تحمل والدته الجنسية الأمريكية ولا يحق له الترشح وفقا للقانون، ولكنه يعاند ويرفض الاعتراف بذلك، فينقلب وأتباعه على القانون ولجنة الانتخابات وعلى المجلس العسكري، أخرجوا الثورة من المعادلة، وصار خليفة المسلمين المنتظر، كما يطلق عليه أتباعه وموجات الانحراف بالكذب، والذي يطلقون عليه أحيانا "المناورة السياسية" أو القرار حسب "مقتضيات الموقف"، جسدت سمة موقف جماعة الإخوان غير القانونية ولا مسوغ لوجودها وحزب "الحرية والعدالة" ذراعها السياسي، مما زاد الشكوك في نواياهم، وبالتالي صلاحيتهم السياسية، وتصاعد الحديث عن وجود تنظيم سري مسلح للجماعة، وتحول من مجرد الإشاعة إلى مهمة تلح بضرورة الاستقصاء والمتابعة، خاصة وأن مصدر المعلومة هو الحليف الذي فتح لهم أبواب الوجود وأخرج عناصرهم من السجن بالإعفاء الصحي، واليوم يربط بينهم وبين جماعات من "حماس"تشاركهم العمل وتقوم بالتوريد العكسي للسلاح ويستكمل المناخ المحيط بوقائع جمعة الفشل مكوناته بحالة العناصر والجماعات داخل معسكر الثورة، فقدت الرؤية السياسية والاقتصادية لمجتمع الثورة كما تريده، فلجأت إلى مهمة التحريض، والتحريض يستلزم خصما وعدوا يجري الحشد في مواجهته، ولم يكن لديهم سوى المجلس العسكري وأداءات الفترة الانتقالية التي يتحمل أوزارها، ولم يحاول أحد أن يوقف التردي ويعيد توجيه الطاقة لإنتاج موقف إيجابي لصالح الثورة كشفت جمعة الفشل بالإضافة إلى ذلك، أن مجرد الاحتشاد والتظاهر ليس هو آلية الثورة الوحيدة، فضلا عن كونها غير كافية لمواجهة متطلبات المرحلة، وكشفت عن الحاجة لأن تنتج الثورة كوادرها السياسية، وأن تلتزم هذه الكوادر بأهداف الثورة وبأن الشعب هو مالكها وألا تعود إلى زمن اتهام الشعب بالتقصير بديلا عن نقد الذات الواجب الآن، وأن تدرك أن هذا الطريق طويل، ويتطلب الإبداع في كيفية اختصار الزمن، وليس إهلاكه على غير هدى وفقدان قيمته وإهدار طاقة الفعل في مهام تحريضية وحسب ما كان يصلح من أساليب وأدوات في مرحلة هدم النظام السابق والذي اعتمد على حالة الرفض الشعبي لهذا النظام، لم يعد يصلح لبناء نظام جديد خاصة أن الحالة الشعبية الآن هي حالة "الالتباس مرد حالة الالتباس الشعبية أن الخصومة مع "الجيش الوطني" ودوره، وعدم القبول بأي تفسير يفصل بين أداء المجلس العسكري بصفته السياسية في إدارة الدولة وبين الجيش، أدى إلى انحياز لصالح البدلة العسكرية دون مناقشة لمضمون الأداء. وإطلاق البعض لكلمة العسكرتارية وجمعهم للتاريخ من ثورة 1952 إلى اليوم في توصيف واحد هو تعسف مع التاريخ، والذين يفعلون هذا يصطدمون بالشعب الذي جسد له عبدالناصر معاني الاستقلال الوطني والانحياز للفقراء والسعي إلى العدل، وحديث أولئك عن العسكرتارية لا يقترن به حديث عن أداءات كانت مضادة لثورة 1952 سواء عن قصور في المعرفة أو عن هوى ومما يثير حالة الالتباس الشعبي هو ما اتسم به أداء الإخوان وحزبهم والتيارات السلفية، فالحالة الشعبية لم تضعهم بالأساس في المعسكر المضاد للثورة، ولكنها رأت فيهم جماعة "التقوى"، واستبدلوا "الفرعون الأب الإله"، "بالدينيين" الرحماء الذين يخشون الله في أمر الشعب. وحل هذا المعني لغياب البديل، فسلم الشعب أمره إلى اعتقاد يعتمد على الفطرة أكثر من اعتماده على العقل إن جملة مكونات المناخ المصري الآن تفرض البحث عن بديل يملك الرؤية، وقادرا على الحشد، ويحفر لنفسه مكانا في المجتمع، وإن لم تجده، تصنعه مهما كان الثمن والجهد اللازمين لإتمام ذلك. بديل يوقف حالة السيولة في الكلام ويحولها إلى فعل بديل يتحرك في الواقع وليس الميادين والشوارع وفقط بديل يدرك أن الشعب مصدر القوة، وأن دخول القوى الاجتماعية في المعادلة هو السبيل لإعادة التوازن بديل يفصل بين الحساب على الأخطاء والخطايا ووضعها في حجمها، وبين إهدار عناصر القوة في المجتمع معركة الدستور القادمة ستكشف حقيقة المضمون للتيارات السياسية، ولكنها ستكون وبالا على الشعب إن هي تغاضت عن المكونات الاجتماعية والثقافية والحضارية للمجتمع ومعركة انتخاب الرئيس هي استطراد لمسيرة الإجراءات الكاذبة، فانتخاب الرئيس لا يعني الدولة المدنية، بل سيجري استبدال جديد للخصومة وتأجيل المحكمة الدستورية للفصل في دستورية قانون انتخابات المجالس النيابية، هو مقامرة حيث تجب الجدية والحسم تتزاحم الأقدام على الطريق، وتغير الأهواء من اتجاهاتها، تتصارع ولا تضع الشعب في الحساب، متناسية درس التاريخ بأن من يسقط الشعب من الحساب يسقط من كل حساب