بقلم مصطفى الغزاوي تصدي شباب الثورة لحل معضلة سؤال "ما العمل؟"، الذي واجه مصر قبل الخامس والعشرين من يناير 2011، وخرجوا ليستخلصوا الإرادة الوطنية من مغتصبيها في نظام ساده فساد لم يتصوره أكثر الناس اتهاما له بالفساد أنه بلغ هذا المدى. وسيكتب التاريخ، أن جيلا من الشباب تحمل المسؤولية عن كل الشعب، وأنه تجاوز سن الشباب وتنازل طوعا عن الحياة، وقدمها قربان شهادة في سبيل وطنه وحريته، فنزع سلاح القتل من يد المغتصب، بل جعل من الشهداء دلالة يقين بضرورة تحرير الإرادة الوطنية، وسلاحا في مواجهة المغتصب، ويومها سيقول الشعب، لقد انتصر الشباب، ولكننا تركناهم يقاتلون وحدهم، كان الله معهم فقد تحملوا أوزارنا. تبدو مصر اليوم كما هو الحال في "المولد" الشعبي، والمولد هو مناسبة تقام حيث توجد أضرحة يقول الناس إنه دفن بها رجال من أولياء الله الصالحين، وبديل القدوة ودراسة الأثر، تنصب الخيام التي يصدح فيها المنشدون بل أحيانا الراقصات، والألعاب هنا وهناك، وينتشر اللصوص بين الحضور، وتهدر في أحيان كثيرة الأخلاق والقيم. هكذا الحال في اليوم "مولد انتخابات الرئاسة" وتنزوي على الجانب مسؤولية إعداد الدستور وتتحول إلى صراع لاختيار لجنة الكهنة المسماة بلجنة المائة، ولا يبدو أن أحدا احترم مشهد الدم المسال من أعز أبنائنا فوق أسفلت الشوارع، والقاتل طليق بل وتبلغ به الصفاقة أنه يدين المقتول، ونسوا أن مصر فقدت من أجمل الأزمنة خمسة عشر شهرا هي الفترة الانتقالية والتي أسماها المصريون الفترة الانتقامية لطبيعة منهج تصفية الثوار والتخبط في القرارات وطبيعة القوى التي سطت على الثورة ولوت عنقها لمصالح حزبية وكأن الأرض دانت لهم، غير عابئين بمعاناة الشعب، رغم أن العدل هو سفر السماء الأول. يواجه الشباب الآن تحدي إدارة أزمة مركبة، فالوقت قد سرق واستنفدت الفترة الماضية في مقاومة محاولات الثورة المضادة لإجهاض الثورة، ومازال أمام الثوار مسؤولية استرداد السلطة بكل ما يترتب عليها من مهام، والزمن يتساقط في قضايا فرعية كأوراق خريف جافة تعصف بها رياح شتاء قارس وصوتها كفحيح الأفاعي ويصفونه بلحن الخلود، خلود نظام مبارك وليس خلود شعب مصر، وكأن الطبيعة غيرت، بفعل القتل والكذب، من فصولها، رغم سطوع شمس الحقيقة "إن إرادة الشعب صارت بالميدان". وإذا بدا أن أسلوب القتل المادي توقف بعد أن استنفد بعضا من أغراضه، لكنه في اللحظة الراهنة يجسد ذاته في قتل الشخصية معنويا، ويكاد تسونامي الثورة المضادة أن يطيح بكل شيء. استولت الثورة المضادة على مجلس الشعب. ويسعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة لاستقطاب الشباب لتزكية منصور حسن (القادم من زمن السادات) رئيسا للجمهورية.. وتسعى الثورة المضادة للاستيلاء على لجنة إعداد الدستور، غياب معرفي مطبق يسير عكس العلوم الاجتماعية والسياسية لمعنى الدستور وموجبات صياغته كعقد اجتماعي توافقي كلي شامل بين كافة قوى المجتمع المصري، غياب يصل إلى حد الجهل والعناد يضفي على الجهل أيضا سمة الديكتاتورية، وكأن الشعب قام بثورته ليستبدل نظاما ديكتاتوريا بآخر أشد ديكتاتورية منه لأنه يلبس عباءة الدين ويطلق لحيته، ويملكون في هذا الحق المدعى لأن متآمرا وضع مادة في الإعلان الدستوري تقول "يختار المجلس المنتخب لجنة إعداد الدستور"، ويتجاوز الواقع حالة الجهل إلى قصد سرقة الدستور قبل وضعه. تبدو مقصلة الأغلبية في مجلس الشعب "حامية" على العليمي لأنه قال مثلا شعبيا مصريا "ما قدرش على الحمار قدر على البردعة"، وهو مثل يقال عند تحميل الأدنى (الجماد) مسؤولية الفعل بدلا من الفاعل الأساسي، المثل يصف الإجراء ولا يصف أحدا بأنه حمار وليست البردعة اشتقاق من البرادعي حتى يثير حفيظتهم. وذات المقصلة تبدو باردة في مواجهة مصطفى بكري الذي وقف بالمجلس يكيل أوصاف الخيانة والعمالة ضد مصريين، لينتهي الأمر به في أحضان الأغلبية تربت عليه وتحتضنه وتقبِّلهُ.. والتحدي الذي يواجهه الثوار يتم في هذه البيئة، والثوار مطالبون بتجديد الثورة وليس مجرد استمرارها. والتحدي هنا ليس مجرد البناء التنظيمي، وليست رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية للوطن كما يريده بثورته، ولكن التحدي الأخطر، أن تحالف القوى المضادة للثورة يكاد يستكمل أركان بنيانه ويكتمل العقد بعودة مباحث أمن الدولة إلى ممارسة ذات النشاط القديم تحت مسمى الأمن الوطني، والتحالف ذاته يسعى لسيطرة كاملة على لجنة وضع الدستور وعلى مقعد الرئاسة.. المؤامرة استطاعت على مدى 15 شهرا أن تعيد ترتيب الأوراق، وبداخل أطرافها اعتقاد بأنهم أوقفوا مسيرة التغيير وزخمها الشعبي، غير عابئين بجذوة النار التي تزداد اشتعالا، وتتمدد لتشمل كل ربوع الوطن وكل فئاته. هكذا بيئة العمل والتحدي والمؤامرة، فهل توقف الشباب عن الأداء؟ وما هي مسؤولياته ووسائل وآليات تحقيقها؟. نجح الشباب في تكوين آليات متعددة تتجاوز مئات التشكيلات التي خرجت في أعقاب الثورة، ومع محدودية عدد هذه الآليات، إلا أنهم استعاضوا عن وحدة التنظيم بوحدة المهمة، ولم نصل بعد إلى وحدة الهدف، فقد تكون المهمة مهمة فرعية لأهداف الثورة (محاكمة القتلة وحق الشهيد والمصاب على المجتمع)، ولكنها مهمة يجتمع عليها الكل وتستقطب زخما جماهيريا شأنها في ذلك شأن (يسقط حكم العسكر) بينما الحقيقة أن سقوط حكم العسكر لا يتأتى بابتعادهم عن صدارة المشهد، فهم سيستبدلون حضورهم الظاهر بمجلس نيابي يدرك أين تكمن القوة الحقيقية في الدولة (المؤسسة العسكرية)، ولجنة الدستور المتروكة لمجلس نيابي انتشرت فيه اللحى الظاهر منها والخفي، ورئيس يريدونه ويصنعونه بغزوة صناديق جديدة. يوحد الشباب حركته بالمهام الثانوية وهو ما أنتج حشود 25 28 يناير 2012، والتي غاب عنها كل أطراف المؤامرة وباءت كل محاولاتهم لتشويهها بالفشل، وانقلب السحر على الساحر، وأعلن الشعب يومها أنه مع الثورة وأنه حاضر في المعادلة رغم كل محاولات تغييبه، بل إن هذه الحشود لم تشهد حادثة تخل بجلال الغاية رغم غياب كل عناصر التأمين الرسمية، وكأن هذه العناصر هي مصدر الاضطراب الأمني. نجحت دعوات الشباب للاحتشاد، والذي هو مصدر القوة للثورة، فهل ينجح الشباب في توجيه الاحتشاد لمواجهة لجنة الكهنة لوضع الدستور؟ سؤال ألح علي مع بعضهم، وجرى حساب المتبقي من الزمن حتى 30 يونيو 2012 موعد تسليم السلطة لرئيس منتخب، وكان مقداره 110 أيام تتآكل يوميا.. ويواجه الشباب حقيقة أن الحركة الوطنية فقيرة ماديا، ولكن درس يناير 2011 العظيم، أنه رغم الفقر نجح الشباب والشعب خلال ثمانية عشر يوما أن ينجز ثورة وأن يدفع ثمنا لها الدم الذي يملكه. ولكن ذهب المعز يطل برأسه ممثلا سيفا على رقاب الشباب ويضاعف من التحدي الذي يواجهون. هل يهدف الشباب إلى تحقيق مطلب الثورة بإنجاز سلطة ثورية؟ أم أنه يدير أزمة اكتمال أركان المؤامرة ومصادرة الثورة؟ الجهد واحد في الحالتين، والوسائل والآليات واحدة، إذا كان الوعي قادرا على عدم الانجراف إلى أخاديد تصنعها المؤامرة بغرض تشتيت الوعي وغسيل العقول باستبدال الخصومات، وتوظيف الطاقة في غير محلها الواجب. الأمر ينذر بتجدد الثورة، فالوعي قائم ويحول دون الاستسلام، وبديلا يومها عن إسقاط حكم العسكر، سيكون إسقاط نظام برئيس وحكومة وبرلمان، دون أن يكون هناك ذلك السؤال الحائر قبل يناير 2011، عن موقف المؤسسة العسكرية، فهذه نجحت في تحويل الصراع ليكون "أهليا مدنيا"، والتجربة التي خاضتها خلال الفترة الانتقالية تؤكد لها أن الصراع داخل المجتمع ليس مهمتها ولا تملك آلياته إلا بالمؤامرة والفرقة والقتل والاعتقال، وهي لا تملك أداة سياسية، ولن تستطيع بناءها رغم كل المحاولات الجارية، فأداة سياسية يبنيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة لن تكون غير فرع من أفرع المخابرات الحربية، ولن يكون لها بطبيعة عمل المخابرات هدف غير اختراق المجتمع، وستنكشف لضعف التدريب، وسيكون مآلها كما الحزب الوطني، الرفض واللفظ من المجتمع، فالبناء السياسي مهمة بين القوى الاجتماعية في المجتمع وليست مهمة المخابرات الحربية فهذا خروج على الدور المحدد لها بطبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والدولة، والتي تركت لحوار المقاهي ولم يجر التعامل معها على مستوى أهميتها وضرورتها. ويتحمل الشباب مسؤولية أكبر من الهتاف بسقوط حكم العسكر، بالتصدي لمهمة بعيدة عن وعي الأطراف في الوطن، وهي مؤتمر علمي لدراسة موضوعية للعلاقة بين الدولة والمؤسسة العسكرية والشروط الحاكمة لها، فليست العلاقة في سرية الميزانية أو علانيتها، ولكن العلاقة هي نطاق العمل وهيكل إدارته، من يملك القرار السياسي بالحرب؟ وماهية دور ووظيفة وزير الدفاع؟ وما هي توصيفات وظائف القائد العام وهيئة الأركان؟ ومن يقرر نوع السلاح ومن أين؟ وكيف يمكن مراقبة كل هذا الأداء وإنضاجه؟ أسئلة طرحت في أعقاب حرب 1967 وها هي تعود أمامنا وكأننا نهدر ما أنتجناه وكأن الفساد طال الدروس التي دفعنا ثمنها من دم الشعب وإمكاناته. ويتحمل الشباب مسؤولية رفع الروح المعنوية لطرفين أصيلين هما الشعب الذي يخيم الاكتئاب وعلامات الاستفهام الضائعة بدون إجابات تروي الظمأ، وكذلك للجيش المصري الذي يمثل الكتلة الصلبة الحامية لمصر، فالهتاف لم يكن هدفه إسقاط الجيش وقيمته في المجتمع، ولكنه كان مطالبة راقية من الشعب بالمحاسبة، فالثورة لها شرعيتها، وهي معيار الوطنية الوحيد، وليس شيئا آخر مهما عظمت قيمته. ولم يتسم رد فعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأن الرسالة قد وصلته، ولكن البعض فيه اعتبرها خصومة ويجب القتال دونها. ويتحمل الشباب مسؤولية ترجمة "عيش حرية عدالة اجتماعية" شعار الثورة وهدفها، ترجمته إلى رؤية اقتصادية اجتماعية يتضمنها الدستور الجديد. الشباب يتحمل هذا بينما يجري الحوار بين حسن مالك (إخوان) وجلال الزوربا (كويز ولن نزيد) حول تشكيل جمعية جديدة لرجال الأعمال (إخوان كويز). فلأي الرؤيتين ينتصر الدستور المصري وبين المصريين أكثر من 40% تحت خط الفقر؟. رؤية وحشد وآلية اتصال وتنظيم على مهام، أعباء يتحملها الشباب ويصنع خبراته أثناء الحركة. قال الجنرال كارل فون كلاوزفتز في دروسه لولي العهد الملكي لبروسيا: "إن هناك شعورا عظيما يحرك قائد الجيش، فالطموح هو الذي كان يحرك يوليوس قيصر، أما هانيبال فكانت تحركه كراهيته لعاطفة الحب، أما فريدريك الكبير، فكان محركه هو تصميمه العظيم بأن ينهزم بشرف وعزه". "افتح قلبك، يا سيدي لمثل هذا الشعور، كن شجاعا وذكيا في خططك، كن قويا وعنيدا ومصمما في التنفيذ، وإذا ساءت الأمور، صمم على الهلاك مع الحفاظ على الشرف". رسالة للشباب ولمن يعنيهم أمر القيادة والأداء والشرف. مصطفى الغزاوي