بقلم مصطفى الغزاوي ما يجري في مصر هذه اللحظات تصعب ملاحقة أحداثه فضلا عن تفاصيله التي أدت إلى تجريف للنظام السابق بكل أركانه من أشخاص ومؤسسات، وهو يفرض تحديد موقف من التغيرات والتباديل في التكتلات والقرارات والإجراءات التي جرت على مدى زمني طويل، وكادت أن تقسم المجتمع لو لم يتمكن الشعب من إيجاد قواعد تتناسب مع الجديد الذي يصدمه كل لحظة، من حجم الفساد وتنوعه وشموله لكافة أركان النظام. وعرف الشعب بالتجربة قيمة الاحتشاد واستخدمها. ويتجاوز الأمر مجرد الكلمات، وتتشكل في الواقع مراكز جديدة وتخرج للعيان قوى طال زمن اختفائها في حضن النظام، حتى أن البلطجية الذين استخدمهم الأمن أداة للقمع والقتل، أصبحوا جزءا من القوى الموجودة بالمجتمع ومن الواجب الانتباه إلى أفعالهم. وأكثر الأشياء وطأة، هو ما يبدو على السطح، أن من قاوموا الخروج والتظاهر يوم 25 يناير، هم من يملأون المشهد صياحا وحضورا وأكثر الناس كسبا من وراء الثورة وسقوط النظام. وشهد الأسبوع الماضي وقائع هدم النظام القديم من تحقيقات واتهامات والقبض على الرئيس المخلوع وابنيه، ورئيس مجلس الشعب، وتغيير المحافظين، وانتهاء بالحكم بحل الحزب الوطني، والإعداد لإصدار قرار بحل المجالس المحلية، موجات هدم متوالية للنظام السابق، والحوار حول المستقبل في حالة تأجيل مريب. ويتجه الجهد من بعد تحقيق هدم القديم إلى بناء نظام الثورة الجديد الذي خرج لها الشعب متجاوزا حتى تصورات السياسيين والمفكرين. وإذا كانت لجنة "البشري" هي الداء الذي أصاب مطلب وضع الدستور وإحالته إلى لجنة من مائة عضو يجري اختيارها من بين أعضاء المجالس النيابية، وأن دور الشعب وفقا للجنة "البشري" يقتصر على القبول أو الرفض في استفتاء عام، فإن علاج "داء لجنة البشري" يأتي من "تصور البشري" نفسه في كتابه "مصر بين العصيان والتفكك"، وهو تصور لا يمكن اجتزاؤه وهو كُلٍ واحد ويناقض التصور الذي أخذ به بعد الثورة، وتساءل طارق البشري في كتابه "ولكن ما العمل، تعديل الدستور مطلوب جدا، ولكن ماذا قبل تعديله وماذا يصاحبه وماذا بعد؟"، وكل هذا لم تشر إليه اللجنة ويقول "إن الدستور هو نظام قانوني، وهو يسبغ الشرعية على واقع قائم أو يحسر الشرعية عن واقع ضار، وهو ييسر وجود ما هو مطلوب ويعوق ظهور ما يراد تجنبه، وهو ينظم علاقات التعامل بين ما هو قائم في الواقع من قوى اجتماعية ومؤسسات مشخصة لهذه القوى، ومن كيانات سياسية سواء كانت في داخل هياكل سلطة الدولة أو خارجها". ويصل إلى قول فصل " إن التوزيع القانوني والدستوري للسلطة يعتمد أول ما يعتمد على التوزيع الفعلي للقوى الاجتماعية السياسية ذات التعدد، والتي تكون متبلورة في تكوينات تشخصها وتعبر عنها في إطار إرادات سياسية ومشخصات مؤسسية، تظهر في شكل تنظيمات أو أحزاب أو نقابات أو جمعيات أو كل هؤلاء. وأنا لا أتكلم هنا عما يكفله القانون من تشكيلات، ولكني أشير وأقصد الإشارة إلى ما يكون موجودا في الواقع الفعلي من تكوينات تجمع أناسا بوصفهم قوة سياسية اجتماعية وتعبر عن إرادة هؤلاء المجتمعين وتمتلك القدرة على تحريكهم الفعلي عندما ترى داعيا لذلك. وتكون إرادتها التي تبديها عند الضرورة وحركتها الفعلية التي تقوم بها عند اللزوم، يكون ذلك ذا فاعلية وتأثير في الواقع المحسوس أيا كانت درجته". هذا شيء مما كتبه البشري والذي يفرض به أن الدستور إرادة مجتمعية لا يجوز إحالتها على أي نحو إلى لجنة مختارة من بين ممثلي الدوائر المنتخبين كأعضاء مجلسي الشعب والشورى، الذين ليسوا بالضرورة تعبيرا عن القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة داخل المجتمع، وهذا ما يزيد من الخلل الذي أصاب حركة الثورة وإرادتها عندما تبنى الإعلان الدستوري التصور الذي اقترحته لجنة البشري، ولا يعبر على أي نحو عن إرادة المجتمع، بل هو يسرق إنجاز الثورة ويوجهه على غير هدي إلى المجهول، والظاهر للعيان وما اتهم به البشري ولجنته أنه يمكن تيار الإخوان وحده، حتى أن المتحدث باسم المجلس العسكري نفى هذا عن المجلس في تصريحات صحفية. نظام سابق يتم تقويض أركانه خلال أسبوع، ودستور مؤجل طبقا لمقترحات لجنة البشري ونقيض تصوراته المعلنة قبل الثورة عن الحوار المجتمعي مصدر الدستور. وتنطلق في المجتمع ثلاث قوى وقد أصابتها حالة من التغير، بينما انهار الدور الأمني في المجتمع لجهاز الشرطة، وليس هناك من يناقشه أو يعيد إليه الحياة. البلطجية والإخوان والشباب ويكاد أن تجمع الثلاثة عقيدة واحدة هي أساس التحرك، وهي البلطجة. ورغم أنه ليس كل الإخوان ولا كل الشباب بلطجية، ولكن السلوكيات والمبررات التي يسوقونها تنضوي تحت منهج ومفهوم البلطجة. هذا ما يمكن ملاحظة أنه يستشري كما النار في الهشيم، فالبلطجة المباشرة من مجرمين أو جماعات استطابت البلطجة بعد غياب الأمن أصاب المجتمع بنوع من التوتر، بينما جهاز الشرطة يمارس دوره برعونة دون أي إحساس بالمسؤولية إلى الحد الذي يجري الحديث عن أن ممارسات السلفيين في قنا من قطع الطريق على قطارات السكك الحديدية، هي من صناعة بقايا جهاز أمن الدولة وعناصر تنتمي إلى الحزب الوطني الذي تم حله، واتجه البلطجية لخدمة أنفسهم بعد أن كانوا يخدمون الأمن. ويبلغ الأمر أن يعلن الإخوان: "نسعى لإقامة الحكم الإسلامي وتطبيق «الحدود» بعد امتلاك الأرض"، ودون مبرر لامتلاك الأرض الذي يدعونه، أو أحقية الولاية على المجتمع بتطبيق الحدود، ولكنهم بذلك وصموا أنفسهم ضمنا أنهم يسرقون ثورة شعب جاءوها بعد أن تمكنت من عوامل النجاح الأساسية هل يمكن توصيف هذا الادعاء "القيمي" بغير البلطجة؟ كيف امتلك الإخوان الأرض؟ أم يعني المتحدث بهذا القول أنهم سرقوا الأرض من تحت أقدام الشعب، أليست هذه بلطجة؟؟ وهل يمكن التغاضي عن قول صبحي صالح إنه لولا الإخوان والجيش لتمت هزيمة الثورة!، وإن كان ذلك كذلك، فلماذا لم يقم الإخوان أساسا بالثورة؟ وكانوا جنبونا كل الزمن الذي انقضى تحت براثن نظام فاسد، ولماذا انتظروا حتى خرج الشعب بكل الإرادة؟ ثم حماية الثورة؟ بأمارة إيه؟ ووعيهم السياسي لا يتجاوز التداعيات التنظيمية لصالحهم، بل إن جريمة البشري تكاد تكشف لهم دورا رديئا عائدا إلى عدم الوعي، وانعدام الانتماء لغير الذات عندما قبلوا بمشاركته ورفضوا الانتماء لوعي الثورة أو حتى نمطية الأداء في وضع دستور ما بعد الثورة وفرضوا رؤيتهم على البشري، أو أنهم جميعا قبلوا بها على غير أمانة الوفاء للثورة. ويطيب لعناصرهم أن يتحدثوا عن أشياء ثلاثة غير ما أعلنوه من امتلاك للأرض: أنهم قضوا من أعمارهم في السجون زمنا، وهم من تحملوا العذاب، وهو أمر لا ينكره أحد ولكن السؤال لماذا تحملتم هذا؟ هل من أجل تحرير الوطن أم من أجل بناء تنظيمكم؟ وأنهم والسلفيون وبقايا الحزب الوطني هم القوى الموجودة بالمجتمع، ويتساءلون وباستعلاء، ومن غيرنا في المجتمع؟ أي أنهم خرجوا من الجماعة الوطنية وحرموا الشباب أيضاً من حقهم في المستقبل. وثالث ما يتحدثون عنه، يطلقون عليه المسكوت عنه، وهو إخراج الجيش من الحياة السياسية، وهو مطلب يعني عندهم الانفراد بالمجتمع. واكتملت الصورة بالانقضاض على ما أعلنوه من مدنية الدولة إلى الحديث عن امتلاك الأرض وإقامة الحكم الإسلامي. وتعرض الشباب لاختبار الوعي عندما هدأت الحركة وكانت الأسئلة المطروحة أعمق كثيرا من مجرد القدرة على الحشد والتظاهر، وتبين أن هناك ندرة في الكوادر، وانتقلت القيادة في بعض المواقف إلى عناصر غير مؤهلة، والبعض منهم يعتمد قاعدة الهتاف في لحظة يجب فيها التفكير والحوار، بل وزاد الطين بلة في بعض المواقف أن عناصر مشبوهة جنائيا انتشرت في إطار خدمات الشاي والطعام وأيضا "الكيف"، ولولا أني شاهدت هذا بنفسي وتعاملت معه لما سجلته حتى نستطيع مواجهته وحماية الشباب رأس رمح الثورة منه، كل هذا مثل عبئا على نمو حركة الشباب، وأدى إلى تشوهات يرصدها المجتمع والمواطنون مما أتاح فرصة لاتهام الشباب بادعاءات الحركة المضادة للثورة. ويتعرض الشباب لمرض النجومية الخطير، والذي صاحبه انقلاب على الأجيال السابقة عليه، وكأنه نبت شيطاني خرج منفردا ومستقلا عن غيره، وزاد الإحساس الذي جرت زراعته داخله بأنه هو الثورة، إلى تزايد حالة التمرد على كل صور الوعي والإدراك بحجة أنها من إنتاج عصور بائدة ورغم ذلك كله، ما زال مخزون الثورة والوعي عند الكتلة الأكبر من الشباب قادر على الحشد، وقادر على الإمساك بإستراتيجية التغيير وتحويلها إلى مهام. الدستور تتربص به المخاطر، لجنة تضعه بديلا عن شعب بأسره. وانقلاب على الثورة تؤديه وزارة الداخلية والبلطجية ويشاركهم الإخوان والسلفيون، ويتسرب الخطر إلى الشباب عماد رمح الثورة. الخطر الداخلي أشد وطأة من الخطر الخارجي وكلاهما خطر ويجب التصدي له، وعجلة الزمن تدور والأكثرية يستغرقها الثأر والقصاص، فهل آن لنا أن نوقف تداعي سرقة الثورة بإحالة أمر الدستور إلى جمعية تأسيسية للقوى الوطنية بديلا عن مسلسل الانتخابات ولجنة المائة، سؤال يفرض نفسه على إرادة الثورة، ووجب الاحتشاد للإجابة عنه