بقلم مصطفى الغزاوي الحوار يجب أن يكون مقدمة لاختيارات وبدائل للقرار الحوار وسيلة التواصل بين العقلاء، وبدون تحديد أهداف الحوار داخل المجتمع في المرحلة التي يجري فيها الحوار، يصبح ما يدور "بغبغة" بين الأطراف، ويطلقون عليه حوار الطرشان. . والحوار بحث جاد عن المشتركات بين الأطراف، وهو يتطلب لغة مشتركة بين المتحاورين، والاجتهاد في تحديد أطراف الحوار، وتحديدا قضايا الحوار، وفوق ذلك كله إعداد بيئة مناسبة للحوار. ونجاح الحوار يتطلب أن يدرك المشاركون فيه، أنهم جاؤوه لعدم إمكانية الحياة المنفردة، ولا القدرة على الوجود الأناني، وإن كانوا قد دخلوا إليه أطرافا بينها اختلاف، فهم ينشدون أن يخرجوا منه، وقد اتفقوا على رؤية مشتركة، مع احترام التمايز بينهم. ما يدور في مصر تحت عنوان الحوار، وهو كثير ومتعدد إلى حد التشتت، يبتعد كثيرا عن الحوار المنشود، وإن كان السبب الرئيسي في ذلك محاولات من اليمين الديني للثأر من التاريخ الوطني، وثورة يوليو، دون بديل غير الاقتتال الديني بلا رؤية اجتماعية وسياسية، واستخدام الدين وسيلة للإرهاب الفكري، ومحاولات من اليسار للعودة إلى ذات الموقف الذي قاده لطفي الخولي عام 1971 لوراثة ثورة يوليو بالارتماء في حضن السادات والحديث عن "الديمقراطية المفقودة"، فلا هو حافظ على رؤية اجتماعية ولا هو لحق بقاطرة الديمقراطية، ويومها أيضاً تجاوز المجتمع في 18 و19 يناير 1977 كل أباطرة الفكر داخلة وقاد شباب التيارات الناصرية واليسارية مظاهرات الخبز، وكان أيضاً الشعب ذخيرتها، ويدخل على المشهد في هذه المرحلة تيار ليبرالي بأوعية متعددة، يشخص مشاكل الوطن في جانبها السياسي، ولا يطرح لقضايا الوطن الاجتماعية غير عناوين دون مضمون. حالة التشتت هذه يرجعها البعض إلى ما أصاب الحركة الوطنية من تبعثر نتيجة التعاملات الحادة من النظام السابق، وإلى الفصل بين النظام السياسي والاقتصادي داخل المجتمع، وإلى الحالة التي فرضتها نجاحات ثورة يناير، بإفراز تشكيلات جديدة من أرصفة المظاهرات وميادينها، دون رؤية سياسية سوى ترديد الهتافات على أنها برامج عمل، مما أفقد الوجود البشري محتواه الاجتماعي والسياسي. وساعد على التشتت أداء عناصر من النخبة، والتي كانت من قبل تنتمي إلى نداءات التغيير والعصيان، وأصبحت من بعد يناير في حالة من الارتباك الذهني تحركها إما عقد قديمة أو تدفعهم مخاوف أن تتجاوزهم الأحداث التي فاقت قدرتهم على التوقع أو حتى الاستيعاب ومازالوا في حالة الهذيان، وانتاب الجميع محاولات الهروب للأمام ليحدث الصدام بالأجساد أكثر منه جدل الأفكار وتخصيبها. وأضيف إلى هذا الأمر فزاعة "المؤسسة العسكرية"، والخلط بين أنها مؤسسة الأمن القومي الرئيسية، والمملوكة للشعب، والتي استقر على علاقتها بالشعب منذ وقائع يونيو 1967 وما استتبعها من احتمالات الصدام بين عناصر المؤسسة العسكرية وبين الدولة، وهو ما تطلب إدارة حوار داخلي في تحديد المهام والعلاقات، بدأ بانتحار عبدالحكيم عامر، وتجسدت قمة التعبير عنه في معركة العبور عام 1973 والتي مثلت مدى النجاح في طبيعة العلاقة بين القوات المسلحة وبين الشعب في إطار دولة القانون والدستور. ورغم الدعوة إلى الشرعية الدستورية بديلا عن الشرعية الثورية التي استتبعت وقائع رحيل جمال عبدالناصر عن المشهد، إلا أن تجاوزات وإعادة صياغة القوانين والمفاهيم ومواد الدستور، جعلت كل بناء الدولة المصرية معرضا للتشوه، وأجابت وقائع ثورة يناير العظيمة عن السؤال الحائر: إلى من سينحاز الجيش في المواجهة بين الشعب والسلطة؟ وانحاز الجيش إلى الشعب، وكانت علامة الطريق الثانية في مسار العلاقة بين المؤسسة العسكرية والدولة، إنها درع الوطن في مواجهة العدوان الخارجي، وإنها للشعب ولا تقبل أن توجه مدافعها ورصاصها للشعب الذي ائتمنها عليه لحمايته، الذين هم المكون البشري الوحيد لقوام الجيش . هكذا أجابت ثورة يناير عن السؤال الحائر، الجيش لمن؟ . وبقي أن نتمسك بأعلى نقطة تطور داخل العلوم العسكرية، والتي ترتبط بتقدير دائم للمواقف يدرس كل عناصر تكوين الصراع، من العدو إلى أرض المعركة، وتعلمنا في كلية ضباط الاحتياط القاعدة الذهبية للتكتيك العسكري والتي تقول: "سرعة استغلال النجاح"، وهكذا لمن يرون أن العسكرية عبارة عن حالة جامدة، فالعسكرية في اتخاذها للقرار تربط بين الاستراتيجي والتكتيكي، فالهدف النهائي للمعركة واضح، وتحويله إلى مهام تكتيكية أيضاً واضح، وإن اتخاذ القرار ينتج من تقدير متجدد للمواقف، وإن الزمن وإنجاز المراحل يفتح الأفق لاستغلال النجاح وتطوير الحركة لتحقيق الأهداف التالية. . وهكذا بتطبيق قواعد القرار في العسكرية المصرية، يصبح الحوار داخل المجتمع هو وسيلة الاستطلاع، وهو المدخل الرئيسي لتقدير الموقف في مواجهة ما ترتب على تحقق الثورة سواء في شأن هدم النظام البائد أو بناء النظام الجديد. . وهذا الحوار لا يفرق بين أطرافه بلون الزي، ولا بسلطة الرتبة العسكرية، ولا بمن يملك قوة السلاح، فكل هذا ملك للشعب، لذا لا يجوز لأحد أن يدعي أن هناك من يهاجم جيش الشعب، أو أن يمارس بجيش الشعب أداء إرهابيا على عناصر الثورة من أبناء الشعب. . وهكذا تجسدت الحاجة إلى الشرعية الدستورية عبر الحوار بين قوى المجتمع، مدخلا إلى القرار، والقرار في مسار الأمم وصناعة تاريخها لا يأتي بالاختطاف، فتعرض على المجتمع عناصر للاستفتاء، ثم تدخل عليه بتزييف الوعي أنه اختيار بين الإسلام وما عداه، ثم تخرج نتيجة الاستفتاء، فيدعي البعض أنها إرادة الشعب لخطوات نحو الشرعية الدستورية بالانتخابات أولا، أو يدعي الآخرون أنها تفويض مطلق للمجلس العسكري، كلاهما يوظف نتيجة الاستفتاء لما يريده هو، مناقضا لاحتياج الوطن. . الانتقال من ثورة بالشعب إلى ثورة للشعب، هو مهمة المرحلة. . وعليه فمهمة الاستطلاع بالحوار لا تتأتي بالحديث بين أصحاب الياقات البيضاء وفقط، ولكن من دون أن ينضم أصحاب الجلابيب الزرقاء والأفرولات إلى حلقات الحوار، تتحول جلسات الحوار إلى بغبغة بين "تنابلة السلطان"، وبدون أن يكون الحوار مقدمة لاختيارات وبدائل للقرار الوطني، يصبح حرثا في الماء، وبدون أن يكون الحوار بين أنداد وأحرار يصبح إملاءات، ويبقى السؤال الحائر مدويا من جديد في كل أرجاء الوطن: الجيش ينحاز لمن؟ . وعليه، فبقدر حاجة المجتمع إلى الحوار يحتاج متخذ القرار إلى الحوار.. ومن غير الصحيح ألا تكون هناك قواعد تحدد من هم المتحاورون وما هي قضايا الحوار؟ . والعجيب أن القول بأن الثورة نجحت وضربت مثلا رائعا لحركة الشعوب في مواجهة الطغيان هو قول صحيح، إلا أن الجميع يقول بأن الثورة ليست بالسلطة، ولا هي تملك القرار، حتى أن رئيس حكومة تسيير الأعمال يأتي بمستشار سياسي يهدد ويتوعد، وهو القادم من بين مقاعد الدراسة أو صفحات الجرائد، ويرتكن وبلا مبرر إلى سلطة توهمها لكرسيه الذي يمكن أن يطاح به في لحظة، وأيضا ليس من المقبول أن يعبر عن المجلس العسكري من يستعدي الشعب، بل ويتهم الإعلام بأن يقول إن المظاهرات حاشدة وهي ليست كذلك!!، ويهدد أحد الصحفيين على الهواء أن حديثه عن شبهة صفقة بين المجلس العسكري والإخوان يعرضه للمحاسبة القانونية، ويرد الصحفي عليه إنه قال في زمن مبارك أكثر من هذا ولم يتلق تهديدا مماثلا، ونجح ذلك اللواء في استفزاز الجميع وتوحيدهم في موقف منه، وبديلا عن الربط بين موقفه وموقف المجلس العسكري، صارت الملاحظة التي يرددها الجميع، أليس هناك عقلا أكثر رجاحة يمكنه عن يعبر عن المجلس العسكري المصري؟ الحوار وقضاياه المتنوعة يتطلب أن تمسك بنقطة المركز قوة حاسمة وغير منحازة، ورغم ترديد مقولة مجلس رئاسي مدني بين الكثيرين، إلا أن الوصول إليه قد يكون صعبا ومعطلا لإمكانية الإنجاز، وليس مطلوبا استمرار فتح بوابات الفتنة بأنواعها، ما إن نغلق إحداها حتى يسارعوا بفتح أخرى، والزمن ينقضي من حولنا دون إنجاز حقيقي يحمي ثورة تمت بالشعب، وينقلها إلى تحقيق أهدافها كثورة للشعب. . لقد نجحت مظاهرة يوم الجمعة 27 مايو في تحقيق أهداف متعددة، وهي أن الشعب يحمي ثورته، وأنها ليست صنيعة من يحاولون اقتناصها، بل لقد أطاحت بمحاولات غير أمينة من الإخوان للوقيعة بين الشعب والجيش، وأوضح انسحاب الجيش من الميادين والشوارع، أن محاولات التهديد بحمامات من الدم ذهبت أدراج الوعي السياسي والأمني للشعب، واتضح أن هجمات البلطجة مصنوعة وليست وليدة غياب الأمن، وتولي المتظاهرون أمن المظاهرات، والتزموا جانب الثورة، وكانوا أرقى من كل محاولات الوقيعة وتجاوزوها. . لقد قدم الشعب شهادة الثقة في قواته المسلحة، وبات واجبا أن تعلن القوات المسلحة ردها على رسالة الشعب الراقية والواضحة، وبات مطلوبا، تغيير أداة التعبير عن المجلس العسكري بعقول قادرة على التعبير عن الاحترام لإرادة الشعب، وأن توقف المحاكمات لعناصر الثورة أمام المحاكم العسكرية، وبدأ التطهير الحقيقي للإعلام والقضاء والأجهزة الأمنية، وأن تفتح الباب للمحاسبة السياسية للنظام السابق ومحاكمتهم أمام محكمة الثورة، وأن تفتح أفق الحوار الوطني على مصراعيه، في قضايا الاقتصاد والاجتماع والسياسة تمهيدا للحوار داخل الجمعية التأسيسية للدستور حول العقد الاجتماعي الجديد، وأن يتم تشكيل هيئات الحوار بالانتخاب من كل المحافظات والنقابات والقوى السياسية، وليس باختيارات من مجهولين لأسماء أيضاً لا تعبر عن مخزون الإرادة الشعبية بمصر. . نجح الشعب يوم 27 مايو في رسالة "إرادة الشعب" المطالبة بالدستور قبل أي انتخاب، ووجب أن يسمع الشعب إجابة على رسالته بالإيجاب.