أحياناً تبدو وجبات المطاعم اللبنانية وماكدونالدز الساندويتشات الدليفيري شيء بلا طعم .. قد تبدو "الكوربة" بمبانيها البيضاء وشوارعها الهادئة مكان موحش بارد لا روح فيه .. قد يصاحب إنتهاء فترة من العشوائية وإنعدام العدالة شعور براحة ، ولكنها راحة غير مكتملة .. هربت من الإضطهاد الغير مبرر والأحقاد والنفسنة .. تركت وظيفتي في الشركة التي يقع مكتبها الرئيسي بوسط البلد .. أنهيت عملي في المكتب ذو السقف العالي والأبواب القديمة –الضرفتين- والشارع الذي كانت تفوح من كل شئ فيه رائحة زمان .. فإنتهت أوقات التسكع في نجيب الريحاني وشارع شريف و طلعت حرب .. و رائحة الشيشة والكابتشينو والشاي بالنعناع في قهوة أم كلثوم وميدان الألفي.. ومطالعة أفواج السياح الممتزجة بالجائلين والمهمشين .. تركت الطرقة الطويلة التي طالماً ركضت وتزلجت بها .. والمكاتب الكبيرة القديمة التي كنت أتأرجح بين كراسيها .. وصينية الفول والبصل .. وأكلات الكشري والممبار.. وابتعدت عن زملاء أصحاب خفة ظل و كاريزما لم أر مثيل لها من قبل ، دخلوا قلبي بلا إستئذان ، وإستقروا فيه بلا رجعة.. رغم كل المساوئ التي إنتهت .. أدركت أن حلول المشاكل غالبا ما تصحب معها مشاكل أخري.. شعرت لأول وهلة عند إنتقالي لوظيفة أخري –بمصر الجديدة- بإنقباض تجاه هذا المكان الجديد.. إفتقدت كل شئ تركته خلفي .. الحميمية بين الموظفين التي يبدو أنها كانت ترتبط بالشريحة التأمينية المنخفضة والمرتبات المتدنية .. وبجو العك والتخبط الإداري .. الأكلات الجماعية التي كانت شئ أساسي لا تخلو من القفشات والرغي والمقالب - رغم أنها كانت ممنوعة وفقاً للنظام الإداري .. أصدقاء جعلوا من أخر يوم عمل لي معهم إحتفال منحوني فيه أكبر كمية حصلت عليها من الهدايا في حياتي .. وسط البلد .. هذا المكان الذي لا أدري حتي الأن سبب جاذبيته لي .. وإدماني تأمل محلاته وشوارعه حتي بعد أن بدأت أعتاد علي الوضع الجديد .. ومع شعوري الذي يحدثني بأن هذه المرحلة الجديدة ستحمل أيضاً أوقات حلوة .. وأصدقاء جدد .. ونمط جديد من العمل والخبرة .. ستبقي أيام وأصدقاء وذكريات وسط البلد في نظري .. أجمل منها مفيش .