العام الدراسي 93-94 فترة عصيبة من الأحداث الداخلية، صراعات وتصفيات بين قوات الأمن والجماعات الإسلامية أو هكذا عرفنا من الإعلام، وكانت كل من محافظة الفيوم ومدينة المنصورة هما الأكثر في التشدد الأمني، ربما هذا من حظ صديقي "مخ" وهو زميل بكلية الهندسة ومن مركز سنورس بالفيوم في الأصل، وكانت لديه سيارة "لادا" نطلق عليها حنش البراري... وكان "مخ" برغم كل نزعاته الإجرامية والإنحرافية فقد كان لديه قدرة على الإقناع غير إنسانية، قد كنا في أوائل العشرينيات من العمر وكانت المناقشة مع "مخ" تشعرك كما لو كنت تتحاور مع الجد "مخ" المتجاوز السبعين من العمر... كان "مخ" هو ملاذ القادمين من الفيوم والفارين من القانون من قريته وكان دوما نعم العون برغم كم الأزمات التي تنتهي بها رحلتهم لكنها دوما كانت نتيجة لحسن النية المفرطة من "مخ" ولأننا الآن على أبواب إمتحانات الفصل الدراسي الأول فكان بيت صديقي مكتظ بالوافدين من الفيوم وكان منهم طالب بكلية طب المنصورة... عفوا نسيت التنويه على أهم الأشياء المشتركة بين نزلاء نزل "مخ" وهو تدخين الحشيش كنوع من الإدعاء الثقافي أو التشبه بحرافيش الثقافة والفن في الستينيات، وكانت تقريبا كل بطاقتهم الشخصية ورخص القيادة الخاصة بهم جميعا مثقوبة من المنتصف مكان "خابور الحشيش" وتكاد تختفي معالمها من الزيت المتكثف عليها... أعود متسللاً لطالب الطب، أستيقظ مذعورا " يانهار إسود الإمتحان هايفوتني..." هكذا صرخ وأيقظ تقريبا جميع النزلاء، وطبعا يأتي دور "مخ" رجل المهام الصعبة، وبكياسته المعتادة ربت على كتفه "ماتخَافِش يا دَكتور" أنا هانزل أجهز حنش البراري وهاستناك تحت، وانتم يا رجالة أعملوا قطر ولمولنا فلوس البنزين والفطار والإصتباحة... وإنطلق الإثنان، طالب هندسة وطالب طب من محافظة الفيوم في طريقهما للمنصورة في سيارة ملاكي الفيوم... وطبعا لم يستلزم الأمر سوى الإقتراب من مدينة المنصورة لتوقف السيارة لجنة المرور ولأن السيارة ملاكي الفيوم فقد طلب الشرطي بطاقات تحقيق الشخصية، وتوالت المفاجآت... فرخصة قيادة مخ مسحوبة من تاريخ غير معلوم، ورخصة السيارة بإسم ورثة أبيه، ويتوجها الثقب المقدس المحاط بهالات الزيت المتكثف، ولا يحمل من آليات تحقيق الشخصية سوى "كارنيه الكلية" ولم يختلف الأمر كثيرا مع رفيقه طالب الطب... فلم يجد الشرطي أي بد من التحفظ على ثلاثتهم، وتم نقل الجميع لمديرية الأمن، وكانت التهمة الرئيسية هي إثبات أن السيارة مملوكة بالفعل ل "مخ" كانت تلك هي القضية الرئيسية للأمن وكانت قضية القيادة بدون رخصة قيادة مخالفة عادية مقارنة بتهمة إثبات نسب السيارة... وكان توتر الطبيب الطالب مؤثرا جدا في القضية، وطلب "مخ" مقابلة ضابط رفيع المستوى لحل الأزمة، ربما قدرته على الإقناع أو مظهرة الجدي، أو حظه العثر هو ما جعل الضباط بجناح الإستقبال إصطحابه لرؤية عميد بالمديرية، وبالفعل إستخدم "مخ" كل مهارات الإتصال لديه، وبعض إستراتيجيات التفاوض، وقليلا من مهارات تحويل التهديدات لفرص، مع "لفحة" من النظرة المعولمة لمستقبل تجارة التين الشوكي، و"شلحة" من الإستدلال بالكتاب والسنة، وبالفعل أقنع سيادة العميد الذي لا يمكن إنكار إعجابه بهذا الشاب النابغة المتحدث اللبق، وقرر التعامل معه كرجل مسئول و"إبن ناس" وأعطاه رخصة السيارة قائلاً "إرجع الفيوم وهات توكيل من الورثة يثبت ملكيتك للعربية وتعالى، وأنا هافرج عن صاحبك والعربية أول ما تجيب التوكيل، معاك 48 ساعة، بالتوفيق يا باشمهندس" وطبعا "المش مهندس مخ" لم يكن معه ما يكفي للعودة للفيوم وتقريبا راوده حلم اليقظة بأن يشتغل بشرف وكد وإجتهاد حتى يدخر مصاريف الرحلة ويعود غالبا بعد التخرج بسنوات لإنقاذ صديقه من الحبس، ويبدو أن الفكرة سيطرت عليه وقفز في تاكسي وطلب من السائق أن يقله لأكبر مقهى به دومينو بالمنصورة، ومارس مهارته الإقناعية للسائق حتى رفض تماما تلقي أجرة التوصيلة.... كانت الشمس قاربت التعامد على الأرض، وقضى قرابة الساعة يلعب الدومينو "على فلوس طبعا" و عد أرباح العمل، فوجد أنه يحتاج نصف ساعة من العمل الإضافي... وبعد إنجاز المهمة بشرف وأمانة والتربح قرابة الخمسين جنيه من القمار قرر تعديل الخطة، فلماذا يرجع للفيوم؟ المطلوب توكيل عام من أمه وإخوته له بإدارة السيارة أو توكيل عام من الورثة، وهو يعرف جيدا أن التوكيلات تتم في مصلحة الشهر العقاري، وبالتالي فعليه الذهاب للشهر العقاري وربنا يحلها.... الحقيقة حتى هذه اللحظة لا أحد يعرف فعليا ما حدث في الشهر العقاري في المنصورة، لكن الشيء الوحيد المعروف أن "مخ" خرج من الشهر العقاري ومعه توكيل عام من الورثة!!! يوميات حمار من مصر