سألت منذ عدة أيام عن الخط الأحمر ولم أفصح عن أي خط أحمر أتحدث وكانت التعليقات مذهلة بالفعل بداية أحمر شفايف وحتى "أحمر من كدة ما شوفتش" وكما هو معروف في أي دراسة إجتماعية تحديد الخطوط الحمراء للنظم الإجتماعية وكما هو معروف أيضا في أنظمة الحكم الشمولية هو تحديدها للخطوط الحمراء التي لا يجب على أحد تخطيها، فمثلاً قبل عصر الجمعيات الأهلية وعصر يخت الشواذ كان الثالوث الاحمر في معظم الدول العربية هو السياسة والدين والجنس، وكان من يحاول الإقتراب منه يهدر دمه في العلن سواء من الأنظمة أو من أذرعتها اليمينية أو اليسارية... حاولت تتبع الخطوط الحمراء الواضحة في العديد من الأنظمة الإجتماعية بداية من الضرائب في إنجلترا ومرورا بساعات العمل بألمانيا ووصولا للحيوانات المقدسة بالهند ولم أجد قط في أيا من تلك الخطوط الحمراء أي إشارات "للإفراط" والذي أراه نتيجة منطقية "للجوع" لم أقرأ لفظ "تجويع" سوى في بروتوكولات حكماء صهيون المشكوك في صحتها والمترجمة للعربية بترجمات عدة، لا أعرف لماذا ربطت رغماً عني "التجويع" بثورة الجياع أو الفوضى الخلاقة التي يتحدث عنها البعض ويخشاها البعض الآخر... الغريب أن الترويج والترهيب من فكرة الجياع بنيت في الأساس على جوع البطون ورغم أننا لدينا مثل شعبي يقول "ماحدش بينام من غير عشا في بلدنا" إلا أنني أرى "التجويع" بشكل مختلف تماماً وبداية من إستئناس الحيوانات عن طريق التحكم بطعامها مع حبسها والذي يؤدي لنتيجة من ضمن نتائج عدة وهي قيام تلك الحيوانات بإلتهام الطعام بإفراط وبسرعة كنتيجة للجوع ولو كانت تلك الحيوانات لها القدرة على سد جوعها في أونه لما أفرطت في إلتهام طعامها المسيطر عليه... ولفظ "الإفراط" هو ما يستوقفني عادة بحكم عملي فأغلب من يطلب مني تصميم بيت له يبدأ بكل مظاهر البيت ويصل لإحتياجاته ويصبه الخرس المؤقت فيلجأ لسياسة "الإفراط" وحين أبحث عن شيء ما بمطبخي فأجدني أمام خزين من أكياس الأرز والمكرونة وعلب التونة وزجاجات الزيت وخلافة من المؤن التي لا أعرف لما نحتفظ بها وبالمبني المجاور يوجد محل بقالة "سوبر ماركت" يوجد به جميع ما نقوم بتخزينه فأراني أمام حقيقة أن ما أنتقده من "إفراط" الزبائن يمارس في بيتي وبيت أبي وإخوتي وأصدقائي يمارس فعليا في شعوبنا العربية كافة فشعرت برغبة في تتبع السبب والذي لخصه الفقهاء من عملاء الإجتماع في الموروث الشعبي من أيام الحروب والتي كانت فترة الإفراط في التخزين للمأكولات الجافة والحبوب والمعلبات... وعندما اخذت في المناورة والاخذ والرد وصلنا مرة أخرى لفكرة الجوع، وتخطيت تأثير التخزين بإفراط على السوق والأسعار وركزت تماما على ثقافة الجوع... جوع البطون يؤدي للإفراط في التخزين من جهة وفي الإفراط في الوجبات الجاهزة من جهة أخرى... جوع العقول يؤدي للإفراط في إقتناء الكتب دون قراءتها من جهة وفي الإفراط في الثرثرة لإدعاء الإمتلاء جوع المشاعر يؤدي للإفراط في التنازل ويؤدي في الإفراط في العلاقات المؤقتة جوع الأنفس يؤدي للإفراط في التملك والإفراط في التدني وحين طرحت الفكرة فكرة "التجويع" والتي يقابلها الإفراط سألت الفقهاء عن رأيهم في ثورة "الجياع" فتعثرت الألسن وبدا على الجميع الغضب مما حاولت قوله ولم أملك فرصة قولها بحقيقتها الفجة أو ربما منعتني مرارتها من قولها... الحقيقة التي أمرضتني قليلا او ربما كثيرا هي أننا لسنا فقط جياع ولكن نعيش أيضا في أوطان جائعة تولد لديها فعل الإفراط في إستيراد كل ما هو أجنبي لا لحاجتنا إليه ولكن لعدم إمتلائنا بما يجعلنا نستطيع "الإختيار" أو تحديد إحتياجاتنا... لن أعود مرة أخرى لبروتوكولات حكماء صهيون ففيها أول ما قرأت عن التجويع ولكن سأقفز لعلوم التسويق وفنون خلق الأنماط الإستهلاكية أو تغيير الأنماط الإستهلاكية فهل يمكن تصديق أن جوع الاوطان والشعوب يتم وفق لمخططات تتحكم بأنماط الإستهلاك وتصدر فعل الإفراط والشراهة؟ للأسف لا يمكن القول بأن تلك الفكرة التي وصفها البعض بالمجنونة أن تتم بالصدفة فمنذ سقوط الدولة العثمانية والتقسيم الإستعماري للدولة الإسلامية التي تحولت للأمة العربية ثم الإستنزاف لمواردها وحتى حرب أكتوبر الذي أظهر إمكانية جديدة توحدت فيها الأمة العربية على الفعل وليس على القول ويمكن الرجوع لمذكرات هنري كيسنجر بالتحديد حول حرب أكتوبر والتي يسبقها وصف شعوره عند زيارة السد العالي بمصر... في عام 1973 إنتصرت الجيوش العربية بقيادة الجيش المصري على دولة إسرائيل وتم إستعادة الكثير من الأراضي المحتلة ومنذ تلك اللحظة التي خرجنا بها منتصرين وتركناهم مهزومين تغيرت مسارات الأمور تماما فبعد 37 عام من إنتصارنا وهزيمتهم نرى الفرق واضحا بيننا وبينهم في كل شيء بداية من العلوم ووصولا للتسليح مرورا بنظم الحكم والخطوط الحمراء... وبنظرة محايدة أعتقد أنني كنت سأتمنى الهزيمة لو كان هذا مصير المهزوم وما نحن فيه هو مصير المنتصر، لكن حقيقة الأمر أننا إنتصرنا على الأرض وهزمنا في عقر دارنا وافقنا على سياسة التجويع ظننا منا أنها حل مرضي للجميع ولم نتصور أبدا أن نتيجة إتباع السياسات المستوردة سيؤدي إلى الإفراط الناتج عن التجويع والتفريط الناتج عن عدم الشرعية ستكون النتيجة بعد 37 عام هو إنفصال عربي عربي دون طلاق رسمي وتقوض الدول المنفصلة على نفسها بجوعها وإفراطها وتفريطها ليوازي إقتصاد الدولة المهزومة مجموع إقتصاد الدول المتقوضة أو يزيد... التجويع هو فعل السادة والإفراط هو فعل العبيد وما بينهما هو فعل "الديموقراطية"