بقلم مصطفى الغزاوي اكتشف اللاعبون في "لعبة الأمم" فوق أرض مصر أن حركة الشعب المصري في ثورة يناير قد قضت بوجوب مراجعة خططهم تجاه مصر، وأنها لم تعد كافية لأنها قامت بالأساس على اعتقاد أن شعب مصر تمت السيطرة المطلقة عليه، وصار لزاما عليهم تعديل تلك الخطط لإعادة السيطرة، فمصر الشعب والموقع والدور، هي الجائزة الكبرى التي يجب عدم التفريط فيها، واستمرار السيطرة على إرادتها هدف تزايد أهميته بعد يناير 2011 اللاعبون على أرض مصر من الداخل أو من الخارج، لم يتركوا فرصة دون استخدامها لتحقيق هدف استرداد السيطرة على الإرادة الوطنية المصرية. وتؤكد وقائع الفترة الانتقالية تناغم الأداء بين الداخل والخارج مما أدى إلى صعوبة تحديد من يدير الحركة المضادة للثورة، وأدى إلى عجز عناصر معسكر الثورة عن الإمساك بالبوصلة المحددة لاتجاه الحركة، رغم ضجيج بورصة الشعارات السياسية ويبدو من الأجدر بنا في هذه المرحلة عدم اللجوء إلى تقسيم متعسف للمجتمع إلى قوى ثورة وقوى مضادة للثورة، ونستبدله بتقسيم المجتمع إلى قوى تملك القدرة على الفعل المؤثر وقوى بعيدة عن هذه القدرة لأنها لا تملك الآليات التي يملكها الطرف الآخر، ولم يعد بيدها سوى الاحتشاد والتظاهر والاعتصام، وهو سلاح أتى بنتائجه وكان صالحا لفترة المقاومة طوال المرحلة الانتقالية ودفع الشعب ثمنا له دم أبنائه، ولكنه سلاح بعيد عن التأثير في مرحلة البناء السياسي والدستوري لنظام ما بعد الثورة تتعدد القضايا المكونة لوقائع ما يجري في مصر الآن وتتباين وتحتاج إلى إعادة التقييم المستمر لاتجاهات الحركة والتبدل في مواقف كافة أطراف التأثير في المشهد. وتتمثل القضايا في لجنة انتخابات الرئاسة، الجمعية التأسيسية للدستور، إنهاء تصدير الغاز إلى إسرائيل، الحدود المصرية المشتعلة وتصريحات المشير، العجز عن تحديد الطرف الثالث "اللهو الخفي"، تصاعد الصراع بين مجلس الشعب والحكومة، تجدد المواجهات الدامية فجر الأحد أمام وزارة الدفاع، ثم ما أطلق عليه معركة كرامة المصريين في الخارج تبدو لجنة انتخابات الرئاسة كالشخصية الشهيرة "دكتور جيكل ومستر هايد"، وهي تعبير عن انفصام الشخصية. اتخذت اللجنة قرارا باستبعاد الفريق أحمد شفيق، آخر من تولى رئاسة الوزارة مع مبارك، والذي وقعت معركة الجمل أثناء توليه المسؤولية وادعى في حينها أنه لا يعلم! تم استبعاده من قائمة المرشحين تأسيسا على تعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية، ثم قبلت اللجنة تظلمه وأعادته إلى قائمة المرشحين، وأحالت القانون إلى المحكمة الدستورية لبحث مدى دستورية القانون وتشرح اللجنة هذا التناقض بأنها اتخذت قرار الاستبعاد كلجنة إدارية وقبلت التظلم وألغت قرارها السابق كلجنة قضائية، وهو أمر يبعث على الشك في قرارات اللجنة وكأن مصر تحتاج إلى فتنة جديدة تحمل عنوان "الفتنة الإدارية والقضائية"، وهو ما أدى إلى تصاعد التظاهرات ضد اللجنة وقراراتها والمادة 28 من الإعلان الدستوري التي تضفي الحصانة على قرارات اللجنة من الطعن عليها أمام القضاء ومن الخطأ التعامل مع انتخابات الرئاسة القادمة على أنها مجرد عملية سياسية، ولكن من الواجب النظر إليها في إطار لعبة الأمم الجارية على أرض مصر، وأن محاولات التأثير على نتائجها لا تتوقف على القوى داخل المجتمع، ولكنها تتعداها إلى الخارج، سواء بالمواقف الدبلوماسية والاقتصادية والتصريحات والتهديدات العسكرية ومسألة تمويل المرشحين أعلنت لجنة الانتخابات الرئاسية القائمة النهائية للمرشحين، وجرت تفاعلات متسارعة وقسمت المرشحين إلى مجموعات أربع، الأولى تضم أحمد شفيق وعمرو موسى وتنسبهم إلى النظام السابق، رغم محاولات عمرو موسى التنصل من ذلك، والمجموعة الثانية تضم مرشحي التيار الديني عبدالمنعم أبو الفتوح ومحمد مرسي ومحمد سليم العوا، ورغم محاولات فصل عبدالمنعم أبو الفتوح عن هذه المجموعة إلا أن تصريحات المرشح الشخصية والمواقف التي ينتجها التيار الديني تؤكد أن الثلاثة من وعاء واحد وبالتزام واحد، وإن فصل أبو الفتوح عن هذه المجموعة هو خطأ في القياس وهروب من مواجهة الواقع، وتردد أن اتصالا من شخصيات عسكرية جرى مع السلفيين لدفعهم إلى تدعيم أبو الفتوح في مواجهة محمد مرسي، وهو ما تم بالفعل! المجموعة الثالثة تضم أبو العز الحريري وحمدين صباحي وخالد علي وهشام البسطويسي، ويطلق عليها مجموعة اليسار، وحتى الآن يبدو أن حظها في الجماهيرية محدود وتنقسم الأصوات بينها مما يضعف مواقف عناصرها وحظها في التصويت. والمجموعة الرابعة تشمل باقي الأسماء ولم يرصد أنها داخل المنافسة حتى اللحظة تحضرني هنا قصة "العملية هيبرون" التي كتبها إريك جوردان رجل المخابرات المركزية الأمريكية والذي تولى مهاما لمدة 30عاما في شأن الشرق الأوسط وفوق أرضه، وهي تدور حول محاولة إسرائيل بواسطة جهاز الموساد السعي إلى اختيار رئيس للولايات المتحدةالأمريكية وهو سيناتور أمريكي سبق تجنيده كعميل لها ويتقاضى راتبا مقابل خدماته، وأهمية هذه العملية تأتي من معاناة إسرائيل أمام تعنت الرئيس الذي تنتهي ولايته ويقف خلف أحد المرشحين من حزبه وله نفس مواقفه. وتدور أحداث الرواية في الجانب المظلم من عالم العلاقات الدولية والذي تديره أجهزة المخابرات، وتنتهي الرواية بمقتل مدير مكتب الموساد في واشنطن والرئيس العميل الذي فاز وهو ذات السيناتور الذي كان يدعمه الرئيس المنتهية ولايته! هكذا هي مفارقة الرواية، والمأساة أنهما قتلا لخطأ سابق لرئيس مكتب الموساد في واشنطن عندما لم يدفع مستحقات قاتل مأجور محترف لجريمة تمت من قبل وقرر هذا القاتل الانتقام، فقتلهما معا أثناء لقاء عاجل بينهما عشية فوز العميل بمنصبه المرتقب!؟ لعبة الأمم في انتخابات الرئاسة لا تنكشف، ولكن إدراك الاحتمالات الكبيرة لوجودها تستدعي يقظة كاملة، وليس التعامل مع قشور المعلومات المتاحة وتستمر أزمة الجمعية التأسيسية للدستور، فبعد اجتماع يوم السبت بين المجلس العسكري والأحزاب السياسية والمستقلين وبحضور ممثلي الإخوان والاتفاق بينهم على معايير اختيار أعضاء الجمعية، رفضت اللجنة التشريعية بمجلس الشعب الاتفاق، لتعود الأزمة إلى نقطة الصفر، وينكشف موقف الإخوان بأنها لا تلتزم بأي اتفاق تعقده. والغريب أن مجلس الشعب نفسه معرض للحل إن حكمت المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون الذي جرت على أساسه الانتخابات النيابية. وحينها تعود الأمور إلى رئيس والمجلس العسكري، ويغيب المجلس النيابي بطبيعة تكوينه الحالية وهذا الصراع والدعوة إلى إقرار جمعية تأسيسية لوضع دستور خلال 35 يوما قبل الرئاسة، يعيد إلى الأذهان دور لجنة البشري وما ترتب على خياراتها بالانتخابات قبل الدستور، ولن يغفر التاريخ للبشري ولجنته هذه الخطيئة في حق مصر والثورة والموضوع الثالث هو قرار الشركة القابضة للغازات الطبيعية بإنهاء تعاقدها مع شركة غاز شرق البحر المتوسط، والذي يعني وقف تصدير الغاز إلى إسرائيل. وكشف هذا القرار أن مصر الدولة تملك بيدها أوراقا يمكن استخدامها لإعادة التوازن مع العدو الإسرائيلي. ووجه المهندس محمد شعيب رئيس الشركة القابضة نداء أن يتم تناول الأمر على أنه قرار بشأن اتفاق تجاري بين شركتين مصريتين، وهو ما يخرج بالقرار بعيدا عن التحكيم الدولي صورة أخرى للعبة الأمم الجارية فوق الأرض المصرية واكب قرار وقف توريد الغاز، تهديدات ووعيد انطلق من الجانب الإسرائيلي، وأخذ منحى تأمين حدود إسرائيل مع مصر بادعاء أن سيناء هي مصدر الخطر القادم. ووجه المشير طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة والقائد العام للقوات المسلحة أثناء مناورة للجيش الثاني في سيناء تصريحا قال فيه: "إن حدودنا ملتهبة ومن يقترب منها سنكسر قدمه" وهنا يجب إدراك الفارق بين التعامل مع المجلس العسكري كحاكم له ما له وعليه ما عليه، وبين تصريح يخرج للمرة الأولى من القائد العام للقوات المسلحة ويتضمن كسر رجل من يقترب من الحدود المصرية، فالعسكريون ربما لا يجيدون لعبة السياسة وإن كنت اختلف على هذا، فوقائع الفترة الانتقالية تؤكد أنهم لعبوها وباحترافٍ عالٍ، ولكن وفق رؤيتهم الخاصة والتي ليست بالضرورة قناعاتنا ورؤيتنا ولكنهم عندما يتحدثون في أمر يخص السلاح والقتال فلا يملكون ترف الحديث بغير ما يستطيعون، وليس مقبولا بعد حرب 73 وبعد ثورة يناير أن يكون مثل هذا الحديث للاستهلاك المحلي يستدعي هذا التصريح ما أطلق عليه الطرف الثالث "اللهو الخفي"، والذي جرى تصنيفه بأنه فلول النظام تارة كما كان مشهد موقعة الجمل، وتارة أخرى جرى توصيفه بأنه بلطجية وعناصر بلباس مدني من الأجهزة الأمنية وعناصر من البلطجية وذلك كله لفض التظاهرات والاعتصامات، ولكن الجديد الذي يثير علامات استفهام بغير حدود، ويجب استقصاء حقيقته هو القول بأنه تنظيم سري مسلح يمثل الجناح العسكري لأحد التنظيمات الدينية وهو وراء العديد من المواجهات المسلحة وإطلاق الرصاص والقتل، وقد يكون مثل هذا القول محل شك عندما يكون حديثا مرسلا بين أفراد، ولكنه يصبح علامة خطر يجب التوقف عندها عندما يخرج الحديث من أحد الأجهزة السيادية وتستشهد عليه بوقائع القتل في أحداث ماسبيرو وغيرها من الأحداث الدامية، وكذلك عند رصد عمليات الحرائق المتتالية في المواقع الإنتاجية والاقتصادية والبنكية والدينية، بتتابع يتجاوز مجرد الصدفة إلى كونه مخططا هكذا يتجاوز الأمر مجرد التأثيرات السياسية في لعبة الأمم إلى استخدام السلاح والحرائق في توجيه الصراع السياسي، وهو ما يعيد إلى الأذهان انفجارات عام 1954 التي قام بها عملاء إسرائيليون في العملية "سوزانا" والتي عرفت بفضيحة "لافون " تعدد احتمالات الطرف الثالث بين عناصر البلطجة المأجورة والتنظيم السري المسلح والأجهزة المخابراتية، يتطلب أيضاً أعلى حالات اليقظة داخل الوطن، ومن قوى الثورة التي يجب عليها الانتقال من حالة الرومانسية الثورية، إلى حالة الإمساك بحقائق الأمور ومواجهتها، فالاختلاف السياسي والتنوع والتعدد مقبول، ولكن دخول السلاح هو إرهاب يستعيد عافيته بعد الثورة يحاول أن يلوي ذراع المجتمع لأهداف خارج إرادة الشعب في التغيير لنظام "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية"، ويعيد تشكيل السلوك المجتمعي والعلاقة بين الأطراف على غير الآليات المشتركة والمتاحة أمام الجميع ويطرأ تطور جديد في الصراع بين جماعة الإخوان والمجلس العسكري بإعلان رئيس المجلس تعليق الجلسات لمدة أسبوع لحين اتخاذ موقف من المجلس بشأن الحكومة الحالية، وهنا يرد تساؤل حول هل هذا الموقف لصالح مصر واحتياجاتها؟ وكيف طرأ هذا الموقف الآن؟ وعندما كانت المواجهة مع وزارة الداخلية في هذه الحكومة في أعقاب أحداث مذبحة بورسعيد والتي راح ضحيتها 73 شهيدا، انبرى ذات المجلس يدافع عن وزارة الداخلية ويرفع عنها الحرج؟ أم أن المطلوب اختبار إمكانية تشكيل الإخوان لحكومة الستين يوما في محاولة لفرض ما لم ينص عليه الإعلان الدستور أو لم يرد في الصفقة (Deal) التي جرت بين المجلس العسكري والإخوان كما يقول عنها محمد مرسي؟ أم هي لعبة "عض الأصابع" بين الحليفين القديمين الإخوان والمجلس العسكري؟ وشهدت الساعات أخيرة عاملين جديدين يدخلان على المشهد، كان يكفي مصر أن تواجه أيا منهما الأول اعتصام أمام وزارة الدفاع بدأه السلفيون، وانضمت إليهم عناصر أخرى من مجموعات الثورة، ويطالب برحيل العسكر وإلغاء لجنة انتخابات الرئاسة، لينتهي إلى مواجهة بالعنف بين الطرف الثالث والمعتصمين ليسقط شهداء جدد ومصابون، في وقت تتشتت فيه السبل بعناصر الثورة وكادوا أن يهلكوا داخل الحملات الانتخابية التي تستغرقهم والثاني القبض على محام عند دخوله للسعودية في رحلة عمرة، ليتصاعد التوتر بين الدولتين تحت عنوان "كرامة المصريين" في الخارج، وكأنها قابلة للتحقق هناك وهي مهدرة في داخل الوطن، وتسحب السعودية سفيرها بعد مظاهرات نالت من سفارتها بالقاهرة تصعيد كان يمكن تداركه لولا غياب دور الدولة، وصار كل موقف يعيد قصة الخلق منذ آدم عليه السلام هذا كله يؤكد أن مصر ساحة مفتوحة "للعبة الأمم" بكافة مكوناتها السياسية والاقتصادية والمادية والسرية، ولم يعد متبقيا لإقامة التوازن في مواجهتها غير إرادة الشعب وتنظيمها، ليتحول بالوعي من أداة "غزوات الصناديق" المتتالية إلى حارس لثورته بإرادة حرة، وحتى لا تتم صناعة الحدث والقرار والرئيس وتشكيل الواقع بعيدا عنه، وخلف أبواب مغلقة في عالم الظلام