رايته في ملابسه الرثة التي علاها أكوام من الأتربة التي ينوء بها العصبة ..كان وجهه هزيلا..وعيناه غائرتين..وعلي جبينه ترتسم هموم تجاعيد السنين..جلس علي الأرض التي كانت مكسوة ببقايا رماد وزيوت لم اعرف كيف أتت الي هذا المكان..اخرج من جيبه علبة الكبريت التي تصاحبه أينما حل..اخذ يستجمع بعضا من حطام أخشاب محيطه به..أشعل عود ثقاب في كومة الخشب التي أمامه..امسك ببراد الشاي الذي أصابه الصدأ.!!! .دعاني لتناول الشاي معه.....كنت سعيدا بالدعوة لأنني شعرت بأن ما يصنعه عم سيد من شاي لا تقدمه فنادق الخمس النجوم..كما ان الحديث معه يشعرني بان الدنيا مازالت بخير...بدأت النار تخبو قليلا..رأيته وهو يستجمع قواه لينفخ فيها..حمدا لله بدا اللهب يزداد كلما ازدادت معه كحات العم سيد..امسك بكوب أمامه كانت تغطيه بقايا رمال..قام من جلسته قائلا: سأغسل لك الكوب يا أستاذ. .أقسمت عليه انا لا يفعل. .لم ار من اللائق ان يقوم بهذه المهمة وقد جاوز السبعين عاما... كما انني تربيت علي احترم من يكبرني واقدر العمر....اخذت منه الكوب وذهبت الي الزير المجاور ...قمت بتنظيف ما تيسر لانه لم يكن كوبا عاديا وانما من بقايا ما تركه المقاول السابق الذي كان يعمل معه العم سيد....كم هي نكهة جميلة ان تشرب الشاي من يدي ذلك الرجل..امسك ببراد الشاي وبطريقته المعهودة رفعه الي اعلي واخذ يصبه ..تناثرت بعضا منه علي الارض..وصوت الشاي المغلي يعطي نغمات لا يستطع عزفها سواه..مد الي بالكوب..كرهت ان اشرب قبله....اقسم ان ان افعل مبررا انه يحب الشاي الذي هو في قاع البراد لان فيه مذاق خاص..شعرت بلذة عند تناوله..عم سيد:- كم تاخذ مرتبا مقابل عملك كخفير لهذا البناء..ضحك ضحكة فيها من السخرية ما يكفي لان أتناسي السؤال..شعرت بانه يريد قول شئ ما......كان الجو ليلا والبرودة لا يمحوها الا دفء كلماتنا وبقايا نار أوشكت علي الرحيل... ..قال العم سيد: يا استاذ والله لو عرفت ما احصل عليه لمت كمدا.!!! .الا تعرف انني واحد ممن اسروا في حربي 56 و67.!!!! .الا تعرف ما معني ان تخوض حربين ؟؟؟؟وان تمتحن في كرامتك؟ وعزتك؟ وآدميتك؟ ووطنيتك؟ ..وضعت الكوب أرضا.. عم سيد مهلا .قاطعني يا استاذ عندي خمس من الأبناء وزوجة مريضة وثلاث فتيات لا استطع ان أجهز واحدة منهن..عندي بيت مازال بالطوب اللبن ..عندي أمراض لا أجرؤ ان اذهب لطبيب لاني لا املك العلاج.. لاحظت ان العم سيد لم يكن يتحدث بصفته الشخصية..شعرت بكبريائه وهو يتحدث بلغة هي اقرب للغة الجماعة..!!! ما عليك استاذي اشرب شايك. .احكي لي عم سيد ماذا حدث معك في الاسر..؟؟؟ .عم سيد بعد بضع هنيهات من الصمت المصحوب بالسعال قال لي بانه لا ينسي يوما انهم كانوا يضعونهم قي غرف مملوءة بالماء ..كان الماء يصل الي رقابهم..فهم لم يكونوا ليستطيعوا النوم ولا ان يناموا الوقوف..كان تعذيبا يزداد بمنع الطعام والشراب...حكي لي عن مقتل احد رفاقه حين اصابه الوهن وهم باخذ لقيمات يقمن صلبه..حينذاك اطلق عليه جندي ثلاث طلقات اردته قتيلا كي يكون عبرة للجائعين..يحكي عم سيد كيف كانت تربط ارجلهم بحبال الكتان وكيف كانوا يعلقون علي الجدران. .عم سيد اشرب شايك .!! .ها هو ذا قاع البراد ينتظرك.!!! . صببته له..لكنه لم يكن يأبه بشرابه . .عم سيد اي شئ تتمني .؟؟؟ .اجابني.: .انا اريد غير الستر.. غير عمل يدر دخلا ثابتا. .اريد ان اشعر بانني قد قدمت شيئا لهذا البلد..!! انا حاربت وهم ارتدوا حلة النصر....!! .انا اسرت وهم تقلدوا اماكن اولادي.....!! انا حملت سلاحا وهم حملوا كؤوس الطلي...!!! .انا اعمل خفيرا منسيا وهم تقلدوا المناصب..!!! ولدي والله لا احقد علي احد ولا اكره النعماء لأحد..! كل ما اريده لقمة عيش كريمة..! عم سيد ما رأيك اساعدك بشئ ما..؟؟؟ هو قليل..اعلم ذلك... .قاطعني لا ..لا أستاذي ..انا لا أتحدث عن نفسي انا واحد من كثيرين...ليتني احيا لأرى نفسي وهم معي مكرمين في هذا البلد...انساب كوب الشاي علي الارض ..القي العم سيد راسه علي التراب..... تسرب النوم الي عينيه.. ..وقفت امامه... وودت لو لو كان مستيقظا حتي اقدم له تحية عسكرية تليق به لكنه لم يفعل..عم سيد يعرف الكثير رغم انه يسكن جلبابه الرث بعمامته التي لم تعرف منذ اسابيع طريقا لنظافتها من الرمل والاسمنت والجير الذي يقوم بحراسته وهو الذي كان يوما يحرس وطنا!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!