الحدود الدنيا لتنسيق المرحلة الثانية 2025 شعبة أدبي كليات ومعاهد    كامل الوزير: قاعدة بيانات شاملة بأبرز المطالب والتحديات والفرص المرتبطة بتوطين صناعة السيارات    رئيسا وزراء مصر والأردن يترأسان أعمال الدورة ال 33 للجنة العليا المشتركة    تفاصيل جلسة فيريرا مع شيكو بانزا    انتظام رابع أيام امتحانات الدور الثاني للشهادة الإعدادية والمهنية والدبلومات في الدقهلية (صور)    أصالة تدعم أنغام في محنتها المرضية    إنقاذ طفلة حديثة الولادة من "قيلة سحائية مخية" مصحوبة بعيوب خلقية بالقلب بمستشفى بالأقصر    رئيسا وزراء مصر والأردن يشهدان توقيع 10 وثائق في مجالات التعاون المشترك (صور)    الأعلى للإعلام: 20 ترخيصا جديدا لمواقع وتطبيقات إلكترونية    ترامب ينشر الحرس الوطني ل «إنقاذ» واشنطن.. وهيومن رايتس ووتش تنتقد (تفاصيل)    وزير التعليم العالي ينعى على المصيلحي: «كان قامة وطنية بارزة»    تعرف على ضوابط الإعلان عن الفائزين بانتخابات الشيوخ وهذه شروط الإعادة    الماكريل ب220 جنيهًا.. أسعار الأسماك بسوق العبور اليوم الثلاثاء    كامل الوزير يترأس اجتماع الجمعية العمومية لشركة السكك الحديدية للخدمات المتكاملة    وزير الأوقاف: القضية الفلسطينية ستظل قضيتنا الكبرى.. وسنظل رافضين لمحاولات التهجير    أشرف زكي وعمر زهران يشهدان ثاني ليالي «حب من طرف حامد» على مسرح السامر (صور)    استمرار مسلسل "Harry Potter" الجديد لمدة 10 سنوات    تفاصيل وقف العمل الميدانى لعمال النظافة أوقات الذروة بالموجة الحارة    تحرير (131) مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    وزير الري يستقبل سفراء مصر الجدد في جنوب السودان وكينيا ورواندا    الأرصاد: استمرار الأجواء شديدة الحرارة وتحذير من اضطراب الملاحة البحرية    غرق سيدة وصغير في نهر النيل بسوهاج    أسعار الأسماك بأسواق كفر الشيخ اليوم.. البلطي ب 90 جنيها    ارتفاع التفاح.. أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    قافلة المساعدات المصرية ال13 تنطلق إلى غزة    إعلام فلسطيني: اتفاق وشيك لوقف إطلاق النار في غزة وانسحاب الجيش الإسرائيلي    أمين الفتوى: "المعاشرة بالمعروف" قيمة إسلامية جامعة تشمل كل العلاقات الإنسانية    انخفاض أسعار 4 عملات عربية خلال تعاملات اليوم    محمد الشناوي يوضح موقفه من الرحيل وحقيقة مفاوضات الزمالك وبيراميدز    26 من زعماء الاتحاد الأوروبي: أوكرانيا يجب أن تتمتع بالحرية في تقرير مستقبلها    تنطلق الخميس.. مواعيد مباريات الجولة الثانية من بطولة الدوري المصري    منتخب الناشئين يواجه الدنمارك في مباراة قوية ب مونديال اليد    3 شهداء و7 إصابات برصاص الاحتلال قرب نقطة توزيع المساعدات وسط القطاع    الأربعاء.. القومي لثقافة الطفل يقدم أوبريت وفاء النيل على مسرح معهد الموسيقى العربية    وزير الإسكان يعقد اجتماعا مع الشركات المنفذة لمشروع حدائق تلال الفسطاط    "لوفيجارو": الصين في مواجهة ترامب "العين بالعين والسن بالسن"    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تكرم المشاركين في ملتقى القادة الأول    انتظام امتحانات الدور الثاني للدبلومات الفنية في يومها الرابع بالغربية    لجان ميدانية لمتابعة منظومة العمل بالوحدات الصحية ورصد المعوقات بالإسكندرية (صور)    مؤشرات تنسيق المرحلة الثانية، الحدود الدنيا للشعبة الأدبية نظام قديم    حريق هائل بمصنع للأحذية في مؤسسة الزكاة بالمرج (صور)    لتوفير الميزانية، طريقة عمل صوص الكراميل في البيت    إصابة 30 شخصا إثر حادث تصادم بين أتوبيس ركاب وسيارة نصف نقل على طريق أسيوط -البحر الأحمر    العظمي 38.. طقس شديد الحرارة ورطوبة مرتفعة في شمال سيناء    «هلاعبك وحقك عليا!».. تعليق ناري من شوبير بشأن رسالة ريبيرو لنجم الأهلي    2 بيولوجيين وتوفى آخر.. أبرز المعلومات عن أبناء كريستيانو رونالدو وجورجينا    مواقيت الصلاة في أسوان اليوم الثلاثاء 12أغسطس 2025    نتيجة تنسيق المرحلة الثانية علمي علوم.. رابط مباشر    4 أبراج «في الحب زي المغناطيس».. يجذبون المعجبين بسهولة وأحلامهم تتحول لواقع    بالصور.. أحدث جلسة تصوير ل آمال ماهر في الساحل الشمالي    وليد صلاح الدين: أرحب بعودة وسام أبوعلي للأهلي.. ومصلحة النادي فوق الجميع    موعد مباراة سيراميكا كيلوباترا وزد بالدوري والقنوات الناقلة    قرار هام بشأن البلوجر لوشا لنشره محتوى منافي للآداب    د. آلاء برانية تكتب: الوعى الزائف.. مخاطر الشائعات على الثقة بين الدولة والمجتمع المصري    «مشروب المقاهي الأكثر طلبًا».. حضري «الزبادي خلاط» في المنزل وتمتعي بمذاق منعش    أجمل عبارات تهنئة بالمولد النبوي الشريف للأهل والأصدقاء    أنا مريضة ينفع آخد فلوس من وراء أهلي؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    هل يشعر الموتى بالأحياء؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما رمَيتَ...... قصة بقلم مصطفى سعيد
نشر في الواقع يوم 26 - 03 - 2012

الليلة التي قبل ليلة سقوط بغداد, جنود الجيش في أهبة الاستعداد, والوجوه مبهورةٌ مغمورة بانتظار الآتي, بعضٌ من عناصر الحرس الجمهوري يجوبون المكان بخفة ويتمتمون مع القائد المسؤول ثم يغيبون ليأتي الأعلى منهم مرتبة وهو يوصي القائد في الجناح الشرقي للعاصمة بغداد أن يهاجموا عند استلام إشارة البدء.
سماء العاصمة تضيء تارةً بصوت وتارةً أخرى بلا صوتٍ أو حراك, منهم من تكاد البهجة تملأ وجهه بعد لمعة القنابل المضيئة حتى لا يستطيع كتمها, بأن الخلاص قريبٌ, وغيرهم تناثر حول المكان وسلاحه بأحضانه لا يدرى بأي شيءٍ يفكرون, كثيرةً كانت الحفر, والسلاح منتشر, كان الجميع يعلم النهاية لكنهم يستمرون في العمل المضني, في الجهة القريبة بعض السيارات تفرغ حمولتها من الذخيرة, وعددٌ من الجنود في الجهة الغربية ينظفون سلاحهم بعجلة وكأن المشهد لا يتكافأ مع المظهر العام الطاغي بصرامة..
كان مقداد من الجنود المغلوبين على أمرهم, يقضي خدمته الإلزامية التي طالت وطابت لمن حوله, يحدث نفسه في تنهد وحسرة لا محدودة, تسربت إلى عقله ذكريات أيامه الماضية فمنذ أن بدأ بالنهوض والقمع والقتل والسجن يلاحق كل أفراد أسرته, لم يسلم الهاربون من طغيان الغربة وملاحقة الاستخبارات لهم, ولا الباقون الخانعون داخل العراق سلموا من البطش أو الهلاك, لا خروج عن الخط المعهود فكما أن ثمة إلهاً واحداً للعالم كله في الأفق, كذلك إله واحد حاكم على أرضهم لا غيره, ومن يقول أو يفكر بغير ذلك, تطبق شريعة الفتك عليه وعلى أهله, لا يستطيع نسيان بيت أم عباس, تلك المرأة التي طافت عن الأربعين من عمرها لا يعلم عنها أحد أي شيء منذ غاب زوجها إبان حرب العراق الأولى...
يتذكر كيف تسرب لآذانه من جلسة الأب مع عمه قبل اعتقالهم عندما كان مغموراً بدراسته وعزلته, استرق السمع عندما حضر الذي كان يحمل أخبارهم من السجن وهو يحكي لهم شبه مخبول, ولم ينسَ تلك الكلمات حتى حينها...
علمت أنهم جردوا المرأة من لباسها أمام زوجها, ليجبروه على الاعتراف والإدلاء بالمعلومات التي بحوزته, لكنه كان يصرخ بأنه لا يعلم أكثر مما صرح به خلال التحقيق... لكمه المحقق وبصق في وجهه وقال :
- لا تأبه لعرضك يا قواد, فكيف ستكون وفيّاً لوطنك, ثم صاح على رجلٍ آخر ملثم شبه عارٍ, وقال لأبي عباس: ما رأيك ... إن هذا الرجل أتي به من الجبهة الصحراوية, لم يرَ النساء ولم يشتم لهن رائحة منذ ستة أشهر... هل ستعترف...؟ حينها صرخ بأعلى من الصوت الذي سبقه... أقسم بالله لا أعلم أكثر مما قلته... اتركوا زوجتي, عندي ثلاث بنات وابني يخدم بجيشكم, كيف يهون عليكم أن تشردوا عائلة وتهدموا بيتها..
ضربه المأمور بالكرباج على وجهه وجسده, كان أبو عباس لا يحدث حراكاً كأن الجسد تآلف مع الألم ولم يعد أي شيء يؤلمه بعد الذي شاهده... حينها كان يصيح المحقق فيه وهو يضربه, والكلمات تخرج من فمه متقطعة لأنها تنطق مع عزم الضرب المبرح :
- يبدو أننا سنحضر بناتك ليُغتصبن أمامك حتى تتكلم ..
كان أبو عباس شبه غائب عن الوعي والدم ينزف من أنفه وجبينه, لكن المحقق أمسك بالكرسي الحديدي الذي كان يسند به قدمه وضربه على رأسه...انتفض يافوخه للخلف وصرخ الرجل وامرأته العارية تصرخ بأعلى منه... رفس المحقق وجه الزوجة وعاد ليمسكه من شعره, لكن الرأس بدأ يتلاعب بين يديه... لو استطاع لفعلها، أن يشق الوريد المتدفق لقلبه حتى يعرف إن كان ثمة معلومات لم يذكرها ...قال المأمور في الجهة الثانية.. سيدي ... إنه ينزف من أذنه... لعله نزيف...
- يا ابن الكواويد, أكنتم تلعبون معه, إن مات ماتت معه أسراره ...حسابي معكم بعد حين, أحضروا الكهرباء وأوصلوها بخصيتيه...تزاحم الحراس حوله وأوصلوا الأسلاك ببدنه, وانتفض أبو عباس من غيبوبته صائحاً...
حينها ركل المحقق الحراس حوله وهو يصيح بهم: إذا لم يعترف بعد نصف ساعة فسيموت, ربما بعدها ستسجنون كلكم يا كلاب...أحضروا السيخ بسرعة...
جيء بالسيخ المعدني, أمسكه وقال للمأمور: زجه في دبر امرأته وأوصله بالكهرباء لنرى هل سيغار ويخاف على عرضه ويتكلم أم لا؟... تردد المأمور فتناول المحقق السيخ من يده وضرب به على كتفه: هيا يا كلب... كنت أقول ألاّ يحضروا المخانيث عندي...
قطع شرود مقداد صوت انفجارٍ قريب, مسح دموعه وبقي في مكانه متأهباً كما كان, لكن زميله القريب لاحظ دموعه وسأله متعجباً :
- هل تبكي..؟
- لا فقط تذكرت أبي... لا أعلم متى سيخرج من سجنه؟
قال له زميله: قريباً إن شاء الله كلهم يخرجون لو كان باقياً منهم حي..انتفض مقداد واستلقى على ظهره وسط الحفرة, وعاد يحدثه: ماذا تقصد؟
- لا شيء, لا أريد أن أثبط من معنوياتك وأنت أمامك معركة شرسة مع أعداء الله كما يسمونهم, إذاً ماذا نسمي ذلك الضابط.... وأشار إلى قائدهم المقدم المختبئ خلف الأكياس في المقدمة.
رد عليه مقداد متعجباً... ماذا حصل لك يا مجنون في هذه الساعة...ماذا تقول...؟
فأجاب زميله وهو يخفض من صوته قليلاً: ماذا تسمي ذلك الذي كان يصرخ بنا في الاجتماع الصباحي... رضيت لكم بالبعث ديناً..
إني أرى الانفراج يلوح ويلمع بالأفق كما تضيء هذه القنابل فوقنا, لا تحزن...الله يرحم والدك ويرحم أمواتنا, حتى أمواتنا رخيصون مثل شعوبنا لا يحظون أحياناً حتى بقبر يواري أجسادهم, وإن كانوا أحياء الله يفك أسرهم رغم الأمل الضئيل الذي نعيش عليه...
- ما الذي بدل حالك في هذه الليلة, وما الذي جعلك شبه يائس بعدما كنت أول المتفائلين...
- كنت فقط هكذا... أتكلم أمام الناس حولي... لكني أعلم مصيبتك وأعلم أي وجع قابعٌ بداخلك... نحن في الهم سواسية يا مقداد..
أخرج من جيبه كيس التبغ العربي ولف له لفافة بسرية دون أن يراه أحد, أشعلها بعد أن غطى الشعلة بخوذته الحديدية, ثم تنهد نافخاً بدخانه صوب الحفرة وقال بحرقة: سأخبرك بحادثة رواها لي قريبي كان رفيقاً حزبيّاً, لكن تكتم عليها...
- كان هنالك رجل كردي له سمعة بين عشيرته أنه واصل وله علاقاته ومعارفه مع مسؤولي العاصمة, يحضر كل شهر من كركوك إلى بغداد ليسأل عن أربعة سجناء برفقة ذويهم, كشف لي قريبي أنهم أعدموا ولم يُبلغوا أهاليهم, بقوا أكثر من سنتين يجيئون للعاصمة على أمل فك أسرهم, لكن... تعلم الباقي... الكارثة التي تثبت أن البشر تخطوا كل شيء هي أن الرجل ذاته الذي كان يرافقهم ويوهمهم أنه حريصٌ عليهم وعلى أبنائهم هو من سلم ورقة بيده فيها قائمة بأسمائهم... لذلك لا تنتظر من لسان أي أحد فرجاً, عش الواقع المر وأقنع نفسك أن أباك وأخي ماتا... نظر له مقداد حتى كاد يهجم عليه...
- إنه الواقع, لا تزعل من كلامي, إن كان ميتاً أو أعدموه... رحمه الله, أقنع نفسك بهذه الحقيقة, وإن عاد خيرٌ على مرارة... وليس خيراً على خير.. لأننا لم نعد نلامس الخير يا صاح...
مرت تلك الليلة وقد لا يقال على خير, حتى جاءت الليلة الأخرى التي سقطت بها العاصمة, كانت القذائف تمطر فوق سماء بغداد, والجنود مطمورون في الخنادق, التراب يكسو الوجوه, الفوضى أكثر من عارمة, كان الضابط المقدم المسؤول عنهم يصيح من خلف الأكياس الترابية على الجنود لكن الصوت لا يُسمع, لا يعرف مقداد أين اختفت الحشود التي خلفه, ولا يعلم كيف تضاءل العدد حتى صار معدوداً, اختار مقداد المكوث بمكانه ولم يجد آمن منه..
ظلت صفارات الإنذار تدوي بالمكان ولا أحد يعلم ماذا يفعل, الكل يركض, والقذائف تسقط هنا وهناك, تذكر مقداد فجأة وسط المعمعة تلك أن القصف يمكن أن يطال الخنادق أكثر من أي مكانٍ آخر, وبحركة فجائية كان يريد النهوض لكن جسده مثل المخدر بعد انتظار وتأهب طيلة النهار, عندما تحرك من مكانه مكابراً انزلقت يده والبندقية كانت ملقمة والقوات معبأة في أتم الاستعداد حينها كما كانت تعليمات القيادة تنص, وقف مقداد شبه مشنج, لا يعلم تحديداً ماذا حصل, لكنه رأى الدخان ينبعث من من فوهة بندقيته ..
خرجت طلقة وكأنها من مسدس لعب الأطفال دون صوتٍ يُسمع بسبب ما يحيط بهم من انفجارات وتبادلٍ لإطلاق النار, عندما تمكن من جسده وعتاده خرج من الخندق, رأى أمامه الضابط المقدم ينظر لخلفه والدم ينزف من كتفه, تحقق أن الطلقة التي خرجت من بندقيته هي التي أصابته, كانت الخوذة تغطي عينيه, والدم يسيل على الأكياس, رفع المقدم الخوذة بصعوبة ونظر إليه, وبقي مقداد يحدق به من بعيد, نظر حوله, لا أحد يراه ولن يقدر أحد أن يراه, الفوضى كأنها القيامة, والناس بعثوا من مراقدهم بزيٍّ عسكري, هكذا تراءى له, تذكر المقدم وأيامه السوداء معه، لا يقل عن المحقق في طغيانه, تذكر يوم حرمه من إجازته قبل أن يعتقل والده, تذكره يوم رفسه على وجهه لأنه رفض النزول في حفرة البراز يوم عقابه, مرت صور أبي عباس وأم عباس وهما يركبان الدراجة النارية والفرحة تغمرهما عند عودتهما من السوق, تذكر جاره أبا باسم الرفيق الحزبي الذي كان يخيف الصغير والكبير, مشاهد كثيرة مرت من أمامه كأن مشهد الحرب أمامه ومشهد سقوط بغداد صار فيلماً, القوي يأكل الضعيف, الصغير يركع للكبير, كادت الدموع تخنقه عندما حضر المشهد الماضي ومثل أمامه حين أتى الجنود ورموا بجثة خاله كأنه نعجة وطالبوهم بثمن الرصاصات التي أعدم بها, تذكر كلام زميله, رحمة الله على والدك, هل سيتكرر المشهد ثانية, لكن هذه المرة جثة والده التقي الذي كان لا يفك يمينه عن شماله إلا مع مثول الفجر..
ظهر بعض الجنود في الجهة الثانية من ساحة القتال, بدا من لباسهم أنهم أمريكان, فكر أن يصوب بندقيته نحوهم, لكنه استدار عنهم وصار وجهه مقابل وجه الضابط المقدم, كان الضابط ينظر إليه ويشير بيده نحوه, نظراته يقرأ بها الترجي...
لكن...
ركن مقداد أخمص البندقية إلى جذع كتفه,وأغمض عيناً وفتح أخرى وضغط على الزناد طلقة أصابت المقدم في بطنه... كرر المشهد..
- هذه طلقة عن خالي... جاءت في صدره...
- هذه طلقة عن أبي عباس وأم عباس...أصابت كتفه الثاني, عندها همد الضابط وصارت رقبته متدلية على بطنه...
كان مقداد يراقبه وهو متعجب من سخافة المشهد عندما يطلق النار على أحد عن قرب, اهتزازه يبعث على الرأفة والضحك معاً, لم يكتفِ مقداد, عاد ولقم سلاحه ووضعه على وضعية الرش ..
- هذه عن أبي... رشقات أمطرت على جثة المقدم بكل ما تبقى في السلاح من ذخيرة أصابت معظمها حول رأسه وكل جسده...
كان يردد وهو يطلق النار على الضابط: لم أرمِ عليك الطلقة الأولى ولم أكن البادئ... لقد بدأ الله معك ليُعجّل في حسابك...
وظل يردد..: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكنَّ الله رَمَى
قام مقداد من مكانه, رمى بندقيته صوب الخندق, رفع يديه عالياً, استطاع أن يلتقط كيساً يتقاذفه الهواء كأقرب مستمسكٍ له كعلامة استسلام, توجه نحو الجنود وجثا على ركبتيه, وهو يدمدم في سره..
تعالوا واقبضوا عليَّ, تعالوا يا من طال غيابكم, وإن قتلتموني... وكم قتل الذين قبلكم وسفكوا دماء أهلي...
إنه والله وقع القتل والظلم من الأخ أشد من وقعه من الغريب...
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكنَّ الله رَمَى..
كتبت القصة بعد سقوط بغداد بيوم
من مجموعة الظالمون ج2 صدرت لدى دار الكفاح للنشر والتوزيع في 2007 م
مدونة المجموعة
http://alzalmon2.blogspot.com/


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.