بقلم د. رفيق حاج نحن نطلق على الرجل الاسود اسم "العبد" وعلى عاملة التنظيف كنية "الخدّامة", وعلى مستشفى الأمراض العقلية "مستشفى المجانين". ان تسمية المستضعفين وغيرهم ممن لا يستوفون معاييرنا الذاتية بالقاب مُهينة تعكس رغبتنا الدفينة في إظهار فوقيتنا الموهومة. التسمية ليست امرا لغويا او شكليا فحسب وانما مؤشرا لمواقفنا تجاه من ننعتهم بهذه الألقاب هنالك طرق عديدة لقياسِ مستوى رُقي الشعوب, تشملُ العديدَ من المتغيراتِ الكمية والكيفية كمستوياتِ الثقافةِ والدخلِ, الانضباطِ الداخلي, الاستعدادِ للتطوّعِ, مدى احترام الوقت ومراعاة خصوصية الأخرين, مدى مساواة المراة بالرجل, الاذعانِ لسيادة القانون, الالتزام بالاخلاقيات الحميدة وتبني القيم السامية. ولكن اهمها في نظري هو طريقة معاملتنا للعاجزين والمستضعفين وذوي العاهات وهؤلاء الذين جارت عليهم الايام وحطّ من مقامهم القدر لا لذنب اقترفوه وانما بسبب اختياره لهم دون غيرهم. على ما يبدو اننا ما زلنا بعيدين عن تبني هذا المقياس, ولكوننا شعب في حالة صراع بقاء ابدية لا نملك حساسية خاصة للمستضعفين والمحتاجين وذوي العاهات. المقصود هنا ليس الجلد الذاتي وانما تسليط الضوء على بُعدٍ حضاريٍ هام لقياس مستوى رُقي الأمة وهو طريقة تعامل ابنائها مع من هم اقل قدرةً او دخلاً او لياقةً او جمالاً منهم. لنبدأ بقضية التسمية- نحن نطلق على الرجل الاسود كنية "العبد" وعلى عاملة التنظيف كنية "الخدّامة" وعلى عُمال النظافة "الزبالين", وعلى مستشفى الأمراض العقلية "مستشفى المجانين" وعلى قصير القامة كنية "المسخوط", وعلى عسير الفهم كنية " الغبي ", واذا اردنا "التودد" اليه نطلق عليه لقب "الأهبل", وعلى اليتيم اسم "القاروط", وعلى ذوي الاحتياجات الخاصة لقب "المتخلفين عقليا", اما شرائح المجتمع التي تقبع في تدريج اقتصادي-اجتماعي متدن فننعتها "بالنَوَر" او "الجلق". على ما يبدو ان تسمية المستضعفين وذوي العاهات ومن لا يستوفون معاييرنا الذاتية بهذه الالقاب المُهينة تعكس رغبتنا الدفينة, كشعب قابع في حالة فقر وجهل, في إظهار فوقيتنا الموهومة. يا لها من فرصة لنشعر اننا "فوق" وهم "تحت". نحن نمشي على ارجلنا ونرقص طربا على انغام الموسيقى وهم مقعدون. نحن نعمل في مهن محترمة وهم ينظفون القمامة من خلفنا. نحن طوال وممشوقو القامة وهم قصار وبدينون. ان التسمية "الجائرة" والالقاب "الخاطئة" تحملان الكثير من الإساءة والمهانة والازعاج لسامعيها. ان تسميتنا للرجل الاسود في أمريكا بالزنجي قد تُفقده صوابه وتجعله ينقض علينا ثائرا ومدافعا عن كرامته, وان قمنا بسؤال المساعدة الادارية لأحد المسؤولين "هل انت سكرتيرة فلان..؟" فتدير ظهرها الينا باستياء لشعورها بالمهانة, ولا يصح تسمية من لا يعمل "بالعاطل عن العمل" وانما ب "غير المُشغّل" او ما يسمى بالانجليزية unemployed. لا شك ان كنية "عاطل عن العمل" مسيئة لحاملها وتوحي بأن صاحبنا هو الذي اختار ان يكون عاطلا عن العمل وليس مُشغّليه, والأصح ان نقوم بتسميته "المُعطّل عن العمل". كذلك الأمر بالنسبة لاستعمالنا مصطلح "الشرائح الضعيفة" بدل "الشرائح المستضعفة" التسمية المُهينة ليست امرا لغويا او شكليا فحسب وانما عادةٌ تكشف مواقفنا السلبية تجاه من ننعتهم بهذه الاسماء والألقاب, ومرآة تعكس مدى استعدادنا لتقديم المساندة والمعونه لهم, ومدى رغبتنا بالتواجد حيث يكونون, ومدى استعدادنا لاستيعابهم كعاملين متساوي الحقوق, ومدى رغبتنا بتزويجهم من بناتنا او ابنائنا, واستعدادنا لاختيارهم ليكونوا مزوّدينا او قادتنا او رؤساءنا او نجومنا المفضّلين. ان موقفنا تجاه هؤلاء اشد خطورة من طريقة تسميتنا لهم. نحن نسخر من البدينين وصاحبي الانف الطويل ونُدرجهم في المسلسلات والافلام والبرامج التلفزيونية وحتى في قصص الاطفال كموضوع لإثارة الضحك وبهذا نربي اجيالا كاملة على هذه العقلية المعطوبة. هل حاولتم مرة ان تقولوا للبدين انه بدين وهل راقبتم علامات الاستياء على وجهه؟ يقول الاطباء ان السمنة المُفرطة هي مرض يستوجب العلاج, فكيف يُعقل ان نسخر من انسان مريض؟! ونحن ايضا نتبادل النكات والغمزات واللمزات على الأحول والمتأتئ في الكلام والأحدَب والأعرَج وكلهم في تعداد المرضى. ولكي نزيد الأمر ايضاحا, هل يُعقل ان نسخر من مرضى القلب او ضغط الدم او السكري؟ والاجابة على ذلك بالطبع لا- فلماذا اذا نسخر ممن قست عليهم الدنيا بعاهة او نقص او عوز؟! هنالك تداعيات أخرى لمواقفنا السلبية والجائرة تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة كعدم اهتمامنا بتوفير المسارات المرورية الودية في مداخل المباني الرسمية, وعدم تخصيص الميزانيات المطلوبة لتأهليهم ودمجهم في المجتمع, وبذلك نساهم في زيادة معاناتهم وتحويلهم الى عالة على من حولهم. هنالك العديد من عسيري الفهم الذين يتوجهون الى عالم الاجرام ليجدوا متنفسا لمعاناتهم والهروب من موقف المجتمع السلبي تجاههم, او لينخرطوا في بيئة جديدة قد ترفع من مكانتهم, ومنهم من يلجأ الى السموم لينسى همومه وظلم المجتمع له. يُقال ان اغلبية الفتيات اللواتي يعملن بالزنا "مضروبات" في عقلهن, وقد انخرطن في هذا "الفرع الاقتصادي" من قلة حيلتهن وعدم قدرتهن على توفير رزقهن. لو وضعنا جانباً قضية "العدل الاجتماعي", وهو حق اولي لكل مخلوق في هذا الكون, ولو تجاهلنا القيم الانسانية والتعاليم الدينية التي تدعو الى معاملة العاجزين من بني البشر بالرفق والحسنى, لا تنسوا إن مثل هؤلاء قد يتحولون الى عبء اقتصادي واجتماعي على ذويهم ومجتمعهم. ولا تنسوا ايضا ان هنالك من ذوي العاهات الجسدية او الذهنية من يتمتعون بمواهب وقدرات أخرى قد يستفيد منها المجتمع, والتاريخ زاخر باسماء لعظماء كانوا اصحاب احتياجات خاصة كطه حسين الضرير, وبتهوفن الأصمّ, وستيفن هوكينغ المقعد والنبي موسى المتأتئ, وغيرهم ممن كانت لهم بصمات واضحة على البشرية جمعاء. بإمكالان القراء ارسال ردود فعلهم الى البريد الالكتروني:[email protected]