هيئة الأنفاق تكشف حقيقة توقف السلالم المتحركة والمصاعد الكهربائية بخطوط المترو    إعلام فلسطيني: شهيد وجرحى في قصف إسرائيلي لبرج سكني وسط غزة    أستاذ علاقات دولية: العالم أجمع يعول على دور مصر في مفاوضات إيقاف حرب غزة    بالصور .. شاهد غرفة ملابس الفراعنة قبل مباراة بوركينا فاسو    حافلة المنتخب تتحرك إلى إستاد القاهرة استعدادا لبوركينا فاسو    وكيل رياضة القليوبية يعلن صرف إعانات مالية للاعبين المصابين في حادث سير    تسليم جثة طفل لقي مصرعه دهسا تحت عجلات سيارة نقل في المنيا إلى ذويه    "هجبلك شقة".. ضبط سيدة استولت على 27 ألف جنيه من اُخري بسوهاج    مصرع شخصين وإصابة 15 آخرين في حادث انقلاب سيارة بالفيوم    مفاجأة جديدة في واقعة سفاح التجمع.. سر وجود نجله أثناء تنفيذ الجرائم    كارول سماحة تجري البروفة الأخيرة لحفلها في لندن (فيديو)    هاني تمام: الأضحية من مال الزكاة لا تجوز ويمكن الذبح بالوكالة    10 ذو الحجة كم يوافق ميلادي 2024؟.. صيام العشر الأوائل يبدأ من الغد    رئيس جامعة بنها يفتتح المؤتمر العلمي السنوي لأمراض الباطنة    للمرة الثانية... BMW تقدم تجدد الفئة الثالثة    إسعاف الفيوم توفر 81 سيارة بالمناطق السياحية خلال أيام عيد الأضحى    أستاذ علم نفس تربوي يوجه نصائح قبل امتحانات الثانوية العامة ويحذر من السوشيال ميديا    القباج وجندي تناقشان آلية إنشاء صندوق «حماية وتأمين المصريين بالخارج»    5 أبراج فلكية تعشق تربية الحيوانات الأليفة (تعرف عليهم)    رئيس جامعة الأزهر يبحث مع وزير الشئون الدينية الصيني سبل التعاون العلمي    التشيك: فتح تحقيق بعد مقتل 4 أشخاص وإصابة 27 جراء تصادم قطارين    أبو اليزيد سلامة يكشف أهداف المشروع القرآني الصيفي    الفريق أسامة عسكر يشهد تنفيذ البيان العملي لإجراءات التأمين التخصصي بالجيش الثالث    نقيب معلمي الإسماعيلية يناقش مع البحيري الملفات التي تهم المدرسين    رئيس هيئة الدواء يستقبل وزير الصحة الناميبى    أشرف زكي محذرًا الشباب: نقابة المهن التمثيلية لا تعترف ب ورش التمثيل    فصائل فلسطينية: استهدفنا مبنى يتحصن به عدد من جنود الاحتلال وأوقعناهم قتلى وجرحى    البنك الأهلي يطلق حملة ترويجية لاستقبال الحوالات الخارجية على بطاقة ميزة    اعتماد مخططات مدينتى أجا والجمالية بالدقهلية    الفريق أول محمد زكى يلتقى منسق مجلس الأمن القومى الأمريكى    على من يكون الحج فريضة كما أمرنا الدين؟    تكريم أبطال نادى ذوى الاحتياجات الخاصة بأسوان    لاعب الإسماعيلي: هناك مفاوضات من سالزبورج للتعاقد معي وأحلم بالاحتراف    «تنمية المشروعات»: تطوير البنية الأساسية ب105 ملايين جنيه بالإسكندرية    ياسمين رئيس بطلة الجزء الثاني ل مسلسل صوت وصورة بدلًا من حنان مطاوع    ماذا قال الشيخ الشعراوي عن العشر من ذي الحجة؟.. «اكتمل فيها الإسلام»    غرامة تصل إلى 10 ملايين جنيه في قانون الملكية الفكرية.. تعرف عليها    هيئة الدواء تستعرض تجربتها الرائدة في مجال النشرات الإلكترونية    سوسن بدر تكشف أحداث مسلسل «أم الدنيا» الحلقة 1 و 2    "مكنتش مصدق".. إبراهيم سعيد يكشف حقيقة طرده من النادي الأهلي وما فعله الأمن (فيديو)    وزير الخارجية يلتقى منسق البيت الأبيض لشئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا    " ثقافة سوهاج" يناقش تعزيز الهوية في الجمهورية الجديدة    نمو الناتج الصناعي الإسباني بواقع 0.8% في أبريل    مستعد لدعم الجزء الرابع.. تركي آل الشيخ يوجه رسالة للقائمين على فريق عمل فيلم "ولاد رزق"    التحقيق مع عاطل هتك عرض طفل في الهرم    فحص 889 حالة خلال قافلة طبية بقرية الفرجاني بمركز بني مزار في المنيا    للمساعدة في أداء المناسك.. نصائح هامة للحجاج لتناول وجبة غذائية صحية متكاملة    رئيس الوفد فى ذكرى دخول العائلة المقدسة: مصر مهبط الديانات    عضو بالبرلمان.. من هو وزير الزراعة في تشكيل الحكومة الجديد؟    إسبانيا تبدي رغبتها في الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام «العدل الدولية»    أبوالغيط يتسلم أوراق اعتماد مندوب الصومال الجديد لدى جامعة الدول العربية    رئيس وزراء الهند للسيسي: نتطلع للعمل معكم لتحقيق مستويات غير مسبوقة في العلاقات    توزيع درجات منهج الفيزياء للصف الثالث الثانوي 2024.. إليك أسئلة مهمة    البرلمان العربي: مسيرات الأعلام واقتحام المسجد الأقصى اعتداء سافر على الوضع التاريخي لمدينة القدس    نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية يتابع سير العمل بمشروعات مدينة أخميم الجديدة    هشام عبد الرسول: أتمنى تواجد منتخب مصر في مونديال 2026    مصر تتعاون مع مدغشقر في مجال الصناعات الدوائية.. و«الصحة»: نسعى لتبادل الخبرات    ملخص أخبار الرياضة اليوم.. أولى صفقات الزمالك وحسام حسن ينفي خلافه مع نجم الأهلي وكونتي مدربًا ل نابولي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أى دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي(*)!..الجزء السادس
نشر في الواقع يوم 29 - 05 - 2011


بقلم : حازم خيري
"نستعد للحكومة الاسلامية .. وهدفنا الوصول إلى سيادة العالم"!!
هكذا مرة واحدة!! حد علمي أن الاخوان لا يملكون مركزاً بحثياً واحداً يُعتد به، يُمكن لباحثيه النهوض بمهمة إجراء دراسات استطلاعية وتفكيكية، للمجتمعات، محلياً وإقليمياً وعالمياً، على نحو ما يفعل الغرب مع قوى الاسلام السياسي ومجتمعاتنا وغيرها! حد علمي أن الاخوان لا يملكون الرغبة أو القدرة على نقد وتطوير ميراثهم الذاتي، ناهيك عن ميراثنا الحضاري، وإلا ما رأيناهم اليوم يرددون مُصطلحات "غربية"، كالديمقراطية والتعددية والأحزاب..الخ(60)!
مُصطلحات كهذه، فضلاً عن عدم تشبع نسيجنا الحضاري بها، لا تتفق تماماً مع أفكار مؤسس الجماعة "الفذ" حسن البنا! ولو أن قيادات الاخوان شغلت نفسها بعض الشيء، إلى جانب انشغالها ب"البيزنس" والانتخابات النقابية والأعمال الخيرية والأنشطة الدعوية والدعائية وأخيراً تأسيس المقار المهيبة..الخ(61)! أقول لو أنهم شغلو أنفسهم إلى جانب كل هذا ببناء صروح بحثية وتربية كوادر "حقيقية" من المفكرين الاستراتيجيين، لكان الأمر الآن أفضل كثيراً لهم ولبلادنا الحائرة!
أغلب الظن أن عقوداً عديدة من الصراع من أجل البقاء، في مواجهة دولة "ما بعد الاستعمار"، بكل خستها، استنزفت قوى الجماعة، وشغلتها عن تحولات "جوهرية" في مصادر القوة، على نحو سيؤثر حتماً عليها، وعلى بلادنا، باعتبار الجماعة، وبعدم مُمانعة غربية(62)، الأقرب إلى الحكم في دولة ما بعد 11/9!
ثمة قوى أخرى لا تقل عجزاً، عن قوى الاسلام السياسي، في مواجهة الواقع الحضاري المُتردي، أفرزتها دولة "ما بعد الاستعمار"، لعل أكثرها تشوهاً، تلك التى تستلهم ما يُسمى بمشاريع النهضة لمؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"!
الانتقال من دولة إلى دولة في التاريخين العربي والاسلامي، على نحو ما حصل مثلاً مع دولة الأمويين ثم مع دولة العباسيين..الخ، عادة ما تنهض به عبقرية فذة من نسيج خاص، يتمتع صاحبها بسمات، تجعله أقرب ما يكون إلى شخصية "البطل في الوجدان الشعبي "، أو "المستبد العادل"! وهو ما يُغري الناس باتباعه، والتعويل عليه في خلاصهم، مدفوعين بحوافز الاذعان، عامة كانت أم خاصة، تلك التى عادة ما يُفرط البطل في بذلها! المُقزز في الأمر، هو ابداء الشعوب، بما فيها الضحايا أنفسهم(63)، حرصاً مُخنثاً على عبادة البطل، وإعتبار تفتيشه في الضمائر، وتجفيفه لمنابع التفكير الحُر، بقعة في ثوب طاهر!
دراويش الآباء المؤسسين لدولة "ما بعد الاستعمار"، هم أخطر وأعقد ما أفرزته هذه الدول، على خلاف ما يعتقده الكثيرون. كون هؤلاء الآباء واجهة مهيبة وزاهية لدولة، لا تختلف ممارساتها كثيراً في خستها، عن ممارسات الأنظمة الاستعمارية، سواء بوعي من هؤلاء الآباء المؤسسين أم بلا وعي! المهم، أنهم اندفعوا أو دُفعوا إلى حيث لا ينبغي لهم ولا لشعوبهم أن يكونوا! ما يزيد الطين بلة، هو حدوث ذلك وسط صخب اعلامي، ومعارك مُفتعلة، لا تتفق مع مقاصد التمكين للحرية في النفوس، وما ينبغي للأحرار أن يكونوا عليه! لقد سهلوا مهمة الغرب، من حيث لا تدري الشعوب وربما من حيث لم يدروا هم أنفسهم!
إعادة انتاج ما يسمى بالمشاريع النهضوية لمؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"، بل وربما أيضاً إعادة انتاج هؤلاء المؤسسين أنفسهم(64)، يعكس حنيناً ماضوياً جذاباً، في ظل الافلاس الحضاري الراهن، وافتقاد مفكرينا القدرة على القراءة النزيهة والمنظمة للأحداث! فحتى اللحظة، لا أذكر أني قرأت دراسة، تجمع بين دفتيها شتات آلامنا عبر العقود الأخيرة، أعني منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورحيل الاستعمار عن أرضنا، من خلال منهج قوي ومُبتكر!
ما يحدث دائماً وأبداً في دوائرنا البحثية والأكاديمية، هو تفتيت "غائي" لعقود دولة "ما بعد الاستعمار"، واختزال آلامها في مجرد أخطاء، أو حتى خطايا، لبعض حكامها! في مصر مثلاً، تجد من يحدثك عن ناصر، باعتباره أسطورة، ويذم السادات! ثم تجد من يحدثك عن السادات باعتباره آية في الذكاء، ويذم ناصر! وقد تجد في المستقبل من يحدثك عن مبارك باعتباره الأكثر حكمة، على الأقل خلال سنواته الأولى، قبل انضمام نجله "جمال" إليه، إلى آخر هذا الهراء!
من هنا، يأتي انحيازي لمقولة الأمريكية المُخضرمة مادلين أولبرايت [ان بعد النظر نادر في العالم العربي](65)! قصر نظر شعوبنا ومفكرينا، يمثل برأيي تحدياً جباراً، أمام ظهور جيل جديد واعد من المُبدعين وواضعي البحوث الرصينة، لا يبالغ في توقير الآباء المؤسسين، بقدر ما يحرص على تفكيك وتجاوز عجزنا المأساوي، عن بناء رؤى استراتيجية، تجمع شتات عقود دولة "ما بعد الاستعمار"! فبدون ذلك، لا أمل في تحري جذور آلامنا، والفوز بالمستقبل!
على الضفة الأخرى من نهر ثقافتنا، يوجد "دُعاة العولمة" و"دراويش ما بعد الحداثة"(66)! ولعل أبرز هؤلاء، على الأقل إعلامياً، وائل غنيم، وهو شاب مصري، نشط بقوة في مساندة محمد البرادعي(67)، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحاصل كذلك على نوبل للسلام، بعد عودته إلى مصر في فبراير 2010! تلك العودة التى كانت على الأرجح بداية نهاية الرئيس مبارك ونظامه!
فقد انتهى الأسبوع الأول لوصول البرادعي إلى القاهرة، بإعلان تشكيل "الجمعية الوطنية للتغيير"، وهي تجمع فضفاض من مختلف المصريين بجميع انتماءاتهم السياسية والمذهبية رجالاً ونساءً، بمن في ذلك ممثلين عن المجتمع المدني والشباب تهدف إلى التغيير في مصر(68)! حيث كان هناك اتفاق عام على ضرورة توحد جميع الأصوات الداعية للتغيير في إطار جمعية وطنية، طُلب من محمد البرادعي أن يكون في مقدمتها ومن خلفها، وبحيث تكون إطارًا عامًا ينطوي تحته جميع الأصوات المطالبة بالتغيير! هذا التنوع هو ما أثمر عن حوالي المليون توقيع علي بيان [معاً سنغيّر]، في أقل من سبعة أشهر من تاريخ إصداره في 2مارس 2010 وهو الهدف الذي شكّك في إمكانية تحقيقه الموالون للنظام القائم آنذاك ! تم هذا من خلال موقع الجمعية، و الموقع الذي أطلقته جماعة الإخوان، وحملة طرق الأبواب التي قام بها شباب الجمعية، والحركات المشاركة بها.
مساندة وائل للبرادعي، وللجهود الساعية لاحداث تغيير في مصر، اتخذت مسارات عديدة، منها مثلاً قيامه بتأسيس الموقع الرسمي لحملة دعم البرادعي! وإليه أيضاً يُنسب الفضل في الدعوة، من خلال ابتكاره الرهيب "كلنا خالد سعيد"(69)، إلى الاحتجاجات الأخيرة، التي أرغمت مبارك على القبول بالتنحي!
في حديث لوالد وائل مع جريدة الحياة اللندنية، قال(70): "إنه وابنه وائل وكل أولاده لا يحبون السياسة، وإنما هم ناشطون اجتماعيون فحسب، وليست لديهم أي ميول". الدكتور سعيد غنيم(60 عاماً) المقيم في السعودية، كشف أن نجله وائل غنيم(30 عاماً) تعرض لتعذيب نفسي وبدني أثناء احتجازه لمدة 12 يوماً قبل نجاح الثورة الشعبية في مصر. الدكتور غنيم ذكر أيضاً للجريدة نفسها أن وائل هو ابنه البكر، وقال إنه ترعرع وتعلّم في السعودية حتى بلغ عمره 13 عاماً. الدكتور غنيم أوضح أن نجله وائل كان يعشق التعامل مع الكومبيوتر منذ طفولته. وقال إن نجله وائل متزوّج بأمريكية مسلمة تعرّف إليها على أثير "الإنترنت"!
ولمزيد من الضوء على دور وائل غنيم في اسقاط النظام المصري، أقتبس هنا من معلومات نشرتها جريدة الدستور المصرية(71)، زعمت الحصول عليها ضمن مجموعة من المستندات والوثائق من داخل جهاز أمن الدولة المصري، ترتبط بثورة 25 يناير! المعلومات تتضمن اعتراف القائم على إنشاء وإدارة صفحة "خالد سعيد" على "الفيس بوك"، المُفرج عنه وقتها طبعاً وائل محمد عباس غنيم، بقيامه باطلاع أحد قيادات شركة جوجل الأمريكية(من أصل يهودي) جيرارد كوهين بأمر إنشائه للصفحة المُشار إليها منذ قرابة الستة أشهر، حيث تردد الأمريكي المذكور على البلاد والتقاه يوم 27 يناير ليلة مظاهرة جمعة الغضب، الأمر الذى يُرجح معه، والكلام نقلاً عن المستند الأصلي، أن تكون تلك الشركة غطاء لأعمال استخباراتية، خاصة عقب توسطها لدى وزارة الخارجية الأمريكية، لاخلاء سبيل وائل على الرغم من كونه لا يحمل الجنسية الأمريكية!
ولنقرأ أيضاً وفي السياق نفسه، بعض ما كتبه صلاح منتصر في الأهرام عن "فتى جوجل" وائل غنيم والذى أعلن قبل تنحي طاغية مصر القوي حسني مبارك بساعات، ومن قناة العربية أنه أقوى من حسني مبارك وأقوى من عمر سليمان(72)! عن قصة وائل غنيم مع ثورة 25 يناير، ومع قيادي بارز في الحزب الوطني الحاكم قبل الثورة ، هو حسام بدراوي(59سنة). يقول منتصر(73):
"طوال الأيام التي مضت كان يتردد علي ألسنة شباب التحرير اسما كان معروفا بينهم لكنه كان مجهولا خارج دائرتهم, وهو اسم وائل غنيم خبير الإنترنت والفيس بوك والتويتر وكل وسائل الاتصالات الحديثة وصاحب صفحة كلنا خالد سعيد التي استقطبت الآلاف علي غير معرفة وجمعتهم عبر شاشات الكمبيوتر والتليفونات المحمولة التي غيرت العصر.
"كان وائل غنيم وهو يعمل في دولة الإمارات مديرا للتسويق بشركة جوجل الشهيرة بالشرق الأوسط قد طلب من شركته إجازة عاجلة لأمر عائلي, الا أن الحقيقة أنه جاء الي مصر ليشترك في تظاهرة25 يناير يوم الغضب والتقي لأول مرة بزملاء عرفهم عن طريق الإنترنت, وأصبح منذ ذلك اليوم مقيماً معهم, وفي مساء الخميس(27 يناير) اختفي وائل غنيم فجأة. وعبثا حاولت أسرته معرفة مكانه, فقد سألت المستشفيات والمشرحة وكل أصدقائه دون أن تستدل عليه. وكان من بين الذين اهتموا بوائل حسن حسام بدراوي وشقيقته داليا بدراوي رواد ميدان التحرير, اللذان سألا الأب حسام إن كان يستطيع أن يساعد في معرفة مكانه.
"كانت أول مرة يسمع فيها حسام باسم وائل غنيم وقد اتصل في نفس اليوم الاثنين7 فبراير بمدير أمن الدولة واكتشف ببساطة أن وائل المختفي الذي دوخ أهله بحثا عنه وأبكي أباه الليالي لدرجة هددت بفقده عينه الوحيدة التي يري بها, مقيم في الجهاز منذ اختطافه دون أن يكلف أحد خاطره بإبلاغ الأسرة, فقد كان من تقاليد التعذيب حجز الشخص وجعله يعيش معزولا وهو معصوب العينين طوال فترة حجزه لايري أحدا من الذين يسألونه أو يتكلمون معه الي أن يشاء الله امرا كان مقضيا.
"احتاج الأمر الي الاتصال بالنائب عمر سليمان والنائب إتصل بوزير الداخلية حتي تمكن بدراوي من الحصول علي قرار بالإفراج عن وائل مساء الاثنين7( فبراير) وظل منتظرا في مكتب وزير الداخلية اللواء محمود وجدي حتي جاء وائل مع مدير الأمن شخصيا, وبعد لقاء الوزير صحبه بدراوي الي بيته.
"وفي نفس الليلة كان وائل غنيم حديث مصر عندما استضافته مني الشاذلي في برنامجها المعروف العاشرة مساء, وقد استطاع وائل بصدقه وبراءته ونقائه أن يهز ملايين المصريين وهو يبكي بدموع صادقة شهداء الرفقة الذين كشفت صورهم أنهم من طبقة قادرة, وأنه علي عكس الخوف الذي كان يملأ نفوس الكثيرين من المصريين من أن تأتيهم الثورة من جياع العشوائيات, فقد جاءت الثورة من الأسر القادرة علي يد شباب الإنترنت الذين وصفهم وائل بأن كل مشكلتهم أنهم يحبون مصر وأنهم لايعملون لحساب احد وانهم يوم خرجوا يوم25 لم يكونوا تحت قيادة احد من الإخوان أو من غيرهم فلم يكونوا أنفسهم يعرفون في ذلك اليوم اين يذهبون!
"مساء الاربعاء كما سبق وبعد أن عاد بدراوي الي بيته مهزوما بعد إبلاغه انهيار كل ما حاوله مع مبارك بالطبع بسبب جمال وانس الفقي, فوجيء باتصال من وائل غنيم يقول له إنه ومجموعة من شباب الثورة يريدون لقاءه لأمر بالغ الأهمية وان لديهم رسالة عاجلة الي الرئيس!".
على أية حال، التسريبات الأمنية لاعترافات وائل غنيم والذى ترك عمله مؤخراً في جوجل، ولحق بركب المجتمع المدني في مصر، ليُساهم من خلاله، وعلى حد قوله، في مكافحة الفقر وتطوير التعليم(74) ، وما رواه الجورنالجي المصري صلاح منتصر، نقلاً عن مذكرات حسام بدراوي، استاذ التوليد وأمراض النساء وعضو في "لجنة السياسات" بالحزب الوطني الحاكم قبل الثورة، وعضو لجنة حقوق الانسان، يستدعيان الماضي على نحو مُذهل! فاسم "جيرارد كوهين" الوارد ذكره في اعترافات وائل غنيم، يأخذنا إلى الماضي غير البعيد! جيرارد أو جارد على ما يبدو شخصية استخباراتية، لا تخلو منها دوائر المخابرات والسياسة والدبلوماسية الغربية! مثل هذه الشخصيات، دائماً ما تكون آية في الدهاء وسعة الاطلاع على حضارتنا! وغالباً ما يكون أصحابها من جيل الشباب، ليسهل عليهم الاحساس باقرانهم في المجتمعات الأخرى، ناهيك عن تحريكهم إن لزم!
جارد كوهين، له كتاب مُهم، بعنوان(75): "أطفال الجهاد Children of Jihad"، أهداني صديق نسخة منه، لم أطلع عليها بعد! قال صديقي عن جارد انه دبلوماسي أمريكي، قام بجولة في العالم العربي منذ سنوات، أثمرت هذا الكتاب الشائق، على حد تعبير صديقي! وفيه دعا جارد لتوجيه فريضة الجهاد لدى الشباب في العالمين العربي والاسلامي، نحو الطُغاة المحليين، بدلاً من الغرب!
جارد كوهين بعبقريته هذه، يُذكرني بأمريكي آخر، لا يقل عنه عبقرية، كتب قليلون عن دوره المُهم في تهجير المصريين إلى دولة "ما بعد الاستعمار"! إنه كيم روزفلت! أحمد مرتضى المراغي آخر وزير داخلية في حكومة ما قبل اندلاع ثورة 23 يوليو، والتى دُفع بالمجتمع المصري على أثرها إلى دولة "ما بعد الاستعمار" ، يقول عن روزفلت في مذكراته إنه قابله في حفل عشاء أقامه السفير كافري في السفارة الأمريكية، ويصفه لنا بقوله(76): "بعد انتهاء العشاء قال لي المستر كافري أنه يريد أن يقدم لي صحافياً وكاتباً أمريكياً يهتم بشئون الشرق الأوسط، ووضع في ذلك مقالات وكتباً وأن اسمه كيم روزفلت، وكنت والكلام للمراغي قد سمعت عنه ولم أره من قبل. ولما قدمني إليه رأيت مظهره مظهر طالب في الجامعة يكثر من المطالعة ولا تهمه موسيقى الجاز. يضع نظارة كبيرة الاطار ويتكلم بصوت خافت ويخالس النظر. يحدق تارة ويخفض البصر تارة اخرى في حياء! لا أدري إن كان مصطنعاً أو أنه طبيعي. لم يخل حديثي معه من الشيوعية. ووجه إلى أسئلة عن النشاط الشيوعي في مصر. ثم فاجأني بقوله:
هل تعلم أني قابلت الملك فاروق وأنه استبقاني للغداء معه. وتكلمت معه كثيراً عن الشيوعية فقال لي الملك انه يعرف عن الشيوعية أضعاف ما يعرف وزير الداخلية وجميع رجال الأمن.
وضحك روزفلت ضحكة تحمل كثيراً من السخرية. وضحكت لأنني أعلم أن هذا طبع فاروق.."!
إلى هنا ينتهي وصف المراغي لكيم روزفلت، أما الجزء الأهم من حديث المراغي فهو عن دور ذلك الشاب الأمريكي وبلاده في الدفع بمصر إلى دولة "ما بعد الاستعمار"، وفيه تعزيز لزعمنا بتشابه مناخ 25 يناير مع مناخ 23 يوليو:
"لا أظن أن المصادفة المحضة هي التى أتت بكيم روزفلت إلى القاهرة، خصوصاً أنه تبين أن كيم روزفلت هو من كبار رجال المخابرات الأمريكية، وكان له دور بارز في ما بعد في اسقاط حكومة مصدق في إيران.
"وليست المصادفات هي التى أتت برجال الأعمال الأمريكيين إلى القاهرة، ولا هي التى جعلت الحكومة الأمريكية تُضاعف عدد رجال السفارة الأمريكية في القاهرة.
"كل ذلك في وقت كانت مصر في حالة غليان ضد الحكم القائم وعلى رأسه الملك فاروق. وكانت حركة الضياط الأحرار قد اشتد ساعدها إلى أبعد مدى، وجابهت الملك في انتحابات نادي الضباط وأعلنت تحديها له بترشيح اللواء محمد نجيب لرئاسة نادي الضياط ضد مرشح الملك اللواء حسين سرس عامر.
"وكانت منشورات الضباط الأحرار تغمر شوارع المدن المصرية. وكانت أسماؤهم معروفة أكثرها لدى الحكومة وقائد الجيش حيدر. فكيف لا تكون معروفة لدى المخابرات الأمريكية والبريطانية؟ بلي كانت معروفة. ولما يئس الأمريكان والانجليز من فاروق اتجهوا نحو حركة الضباط الأحرار وحاولوا الاتصال بها. وجرت هذه المحاولة عن طريق ضابطين في الجيش هما: البكباشي عبد المنعم أمين، وقائد الجناح على صيري. فماذا كان موقف الضباط الأحرار؟".
سؤال المراغي الأخير شديد الأهمية!! أجابت عليه محنة دولة "ما بعد الاستعمار"، والتى تُهجر منها شعوبنا الآن، وهي أكثر تخلفاً وأقل احساساً بالعار مما كنا عليه وقت دخولنا إليها، على يد الشاب روزفلت، وشباب "23 يوليو"!
على الضفة الأخرى من نهر ثقافتنا، يوجد أيضاً أحد أبرز دُعاة العولمة وما بعد الحداثة في بلادي! إنه السيد يسين! ففي مقدمة مختاراته المنشورة، بعنوان "الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي"(77)، يخبرنا يسين انه بدأ مسيرته العلمية كباحث مساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1957، وأنه الآن استاذ لعلم الاجتماع السياسي ومستشار لمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام(78). يقول يسين عن عام 1990 انه نقطة الانقطاع العلمية في مسيرته العلمية! ففيه انتقل من منصبه كمدير لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ليشغل لمدة عامين منصب أمين عام منتدى الفكر العربي بعمان.
في هذ العام، وعلى خلفية انهيار العالم القديم، شعر السيد يسين أن اطاره النظري المتماسك على حد وصف يسين نفسه الذى سبق أن وجه دراساته وبحوثه قد انهار هو الآخر! يسين يضيف انه ربما عبر بوضوح عن هذه الحقيقة ببحث كتبه باللغة الانجليزية، وشارك به في ندوة الحوار العربي الياباني الذى نظمه وعقد في عمان عام 1992، بعنوان "سقوط النماذج العلمية وتحديات حول الحوار"، نُشرت ترجمة عربية له في المجلة الاجتماعية القوميه عام 1992.
وأثناء وجوده بعمان، بدأ يسين اطلاعه المُكثف والمُستمر حتى "الآن"، وكما هو واضح من كتاباته، على الأدبيات الغربية المغمورة آنذاك، والتى كانت معنية بالتنظير لما بعد الحداثة! ترك هذا تأثيراً واضحاً، على فكر السيد يسين وميله الواضح إلى العولمة والما بعد حداثية! وللسيد يسين كتاب مهم، بعنوان "العولمة..والطريق الثالث"(79)، يقترب في عنوانه، إلى حد ما، من كتاب "الطريق الثالث..تجديد الديمقراطية الاجتماعية"(80)، لعالم الاجتماع البريطاني أ. جيدنز!
في كتابه "العولمة..والطريق الثالث"، يصف السيد يسين العولمة بقوله: "لا نبالغ إذا قلنا إن العولمة كمصطلح ومفهوم أصبح من أكثر المفاهيم تردداً على ألسنة الزعماء والقادة والسياسيين والباحثين والمثقفين في مختلف أنحاء العالم.
"وليس هذا غريباً على أي حال. فقد تدفقت موجات العولمة الاقتصادية والتى تتمثل أساساً في الاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول، ووحدة الأسواق المالية والائتمانية في العالم، والدور البارز الذى أصبحت تلعبه الشركات دولية النشاط، بالاضافة إلى تصاعد قوة المؤسسات الدولية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وإذا أضفنا إلى ذلك إنشاء منظمة التجارة العالمية والتى كانت خاتمة لجولات الجات التى امتدت عقوداً من السنين، لقلنا إنها تتويج ورمز في نفس الوقت لعملية العولمة الاقتصادية التى تشمل العالم منذ عقود.
"وللعولمة أيضاً تجليات سياسية، ظهرت على وجه الخصوص بعد سقوط الاتحاد السوقيتي ونهاية عصر الحرب الباردة، وزوال الشمولية إلى الأبد. وأبرز تجلياتها الدعوة إلى الديمقراطية التى أصبحت أساساً لشرعية أي نظام سياسي معاصر، والتعددية واحترام حقوق الانسان"!
استاذ علم الاجتماع السياسي، ومستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، لم يفته وهو الحاصل على جائزة مُبارك في العلوم الاجتماعية لعام 2007 ، توجيه النصح والارشاد إلى صُناع القرار العربي، والجامعات، ومراكز الدراسات، إلى أهمية التعامل مع تحديات العولمة القادمة!
فالعولمة في رأي يسين متعددة، ومُعقدة، وذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، والطريق الوحيد المُتاح أمام بلادنا هو التفاعل "الايجابي" الخلاق معها! الطريف هو خُلو مكتبتنا، على نحو مخيف من أي دراسات تلبي دعوة يسين!
الدراسات الموجودة كلها، بما فيها اصدارات ما يُسمى ب "مدرسة الأهرام" البحثية، لا تخرج عن كونها قراءات روتينية "عقيمة" للمتغيرات العالمية، وتأثيراتها المُحتملة على منطقة الشرق الأوسط، في ضوء أحدث اصدارات مراكز البحوث الاستراتيجية الغربية Think Tank، دون أدنى محاولة لتحطيم محرمات البحث العربي، ودون أدنى تزخيم لميراثنا الحضاري، وقد أوشك على التعفن!
في كتابه "بحثاً عن عالم أفضل"، وُفق الرائع كارل بوبر في وصف المُغادرة إلى "ما بعد الحداثة" أو المُغادرة من التنوير إلى التحكم ، بقوله(81): "إنني آخر بقايا التنوير، أي أنني عقلاني أومن بالحقيقة، وأومن بالعقل البشري .. وحين أقول إنني آخر بقايا التنوير أقصد أن رجل التنوير يتحدث بأبسط ما يستطيع من استخدام اللغة، حديثاً يتسم بالوضوح والبساطة والقوة، مثل أستاذنا العظيم برتراند راسل، لأن الهدف من بساطة اللغة هو التنوير، وليس التسلط"!
سكينر، أشهر علماء النفس السلوكي الحديث، في كتابه "ما وراء الحرية والكرامة"، والذى تُرجم إلى العربية بعنوان: "تكنولوجيا السلوك الانساني"، يضعنا في قلب "ما بعد الحداثة"، ويُنبئنا بموت "الانسان الداخلي المستقل"، بقوله(82):
"عندما يتبنى علم السلوك استراتيجية الفيزياء والبيولوجيا، يُستعاض عن الانسان المستقل الذى كان السلوك ينسب تقليدياً إليه بالبيئة التى نشأ وتطور فيها الجنس البشري، والتى يتشكل فيها سلوك الفرد ويُصان(..).
"في الصورة التقليدية يرى الشخص العالم من حوله، ويختار الملامح المراد رؤيتها، ويميز ما بينها، ويحكم عليها بالصلاح أو السوء، ويغيرها ليجعلها أفضل أو أسوأ إن كان مهملاً ، ويمكن أن يعتبر مسؤولاً عن عمله، فيثاب أو يعاقب على النتائج. أما في الصورة العلمية، فيعتبر الشخص عضواً في أحد الأجناس شكلته طواريء البقاء التطورية، ويبدي عمليات سلوكية تضعه تحت سيطرة البيئة التي يعيش فيها، وإلى حد كبير تحت سيطرة بيئة اجتماعية بناها هو وملايين من الناس ممن هم على شاكلته وحافظوا عليها خلال تطور الثقافة. أما اتجاه علاقة السيطرة فيعكس الأمر: الشخص لا يؤثر على العالم، لكن العالم يؤثر عليه(..).
"التحليل التجريبي ينقل مسئولية تحديد السلوك من الانسان المستقل إلى البيئة، وتصبح البيئة هي المسئولة عن تطور الجنس البشري وعن الذخيرة التى يكتسبها كل عضو. لم تكن الكتابات القديمة عن أثر البيئة كافية، لأنها لم تستطع أن تفسر وتشرح كيفية عمل البيئة، وكان يبدو أن الكثير متروك للانسان المستقل ليقوم به. غير أن الظروف والطواريء البيئية تضطلع الآن بالوظائف التى كانت توكل إلى الانسان المستقل، وهنا تبرز بعض الأسئلة. هل أُلغى الانسان إذن؟
"انه بالتأكيد لم يلغ بصفته جنساً بشرياً أو بصفته فرداً يحقق انجازات. الانسان الداخلي المستقل هو الذى ألغى، وتلك خطوة إلى الأمام. ولكن ألا يصبح الانسان حينذاك مجرد ضحية أو متفرجاً سلبياً على ما يحدث له؟ انه حقاً مسيطر عليه من جانب بيئته، ولكن علينا أن نتذكر بأنها بيئة هي إلى حد كبير من صنعه الخاص. إن تطور الثقافة تدريب جبار على ضبط النفس. كثيراً ما يُقال أن وجهة النظر العلمية عن الانسان تقدم امكانات مثيرة. اننا لم نر بعد ما يمكن للانسان أن يصنع من الانسان."!
في السياق نفسه، تأتي مقابلة أجراها محمود سعد مع مصطفى حجازي، إبان ثورة 25 يناير. مُقدم البرامج المصري وصف حجازي بمُنظر الثورة!! بحوث هذا العالم اللبناني تدخل في إطار علم النفس الاجتماعي العيادي(83)، الذى يدرس الظواهر النفس اجتماعية بالطريقة العيادية، وتهدف على نحو "ما بعد حداثي" غامض، إلى توفير الأفكار اللازمة لمواجهة الخوف والقهر والعنف! حجازي بدأ رحلته البحثية على ما يبدو في لبنان، لاعتقاده بأن انفجار العنف فيها، والأشكال التى اتخذها، وما يحيط به من ظروف، وما تحركه من قوى وعوامل، فرصة كاشفة لما يعتمل في بنية المجتمع المتخلف من عنف، وما يصطرع فيها من مآزق وتناقضات، وهي بالتالي تبين ما يتعرض له الانسان في ذلك العالم من قهر واعتباط، وما يحل بقيمته الانسانية من هدر. حجازي يرى أيضاً أنه إذا ما اتخذ العنف وما يدفعه من قهر وهدر لكيان الانسان في الحالة الراهنة، طابعاً صارخاً ومأساوياً، فإنه هو نفسه، فاعل في بنى المجتمعات المتخلفة على تعددها، ومحرك لها، ومحدد لأنماط العلاقات والاستجابات فيها، إنما بأشكال مقنعة وغير مباشرة، وراء حالة من السكون الظاهري! ذلك هو افتراضه الأساسي الذى دفعه إلى الحديث عن سيكولوجية الانسان المقهور باعتباره النتاج الرئيسي للتخلف الاجتماعي، وهو ما دفعه أيضاً لرفض التطور "الطبيعي" للمجتمع العربي(84)!
هدف حجازي واضح! هدفه تفكيك الذهنية العربية، ثم وعن طريق الهندسة العكسيةReverse Engineering، يتم بالتحكم فيها وتحريكها إلى حيث يُراد!
في حوار آخر مع حجازي، نُشر في "المصري اليوم"، بعنوان: "مصر فى حاجة إلى وثيقة إعلان استقلال إنساني تسبق الدستور"، قدمت الجريدة العالم اللبناني والذى أراه غامضاً بعض الشيء ، لقرائها بهذه الكلمات(85): "عمل الدكتور مصطفى حجازى فى مجال صناعة الفكر، وهو مؤسس مركز متخصص فى الفكر الاستراتيجى، وشركة تعمل فى مجال الحوكمة، وتطوير مؤسسية الشركات، والكيانات الصغيرة، ويشمل مجال عمله تقديم خدمات استراتيجية، لتطوير الكيانات والمجتمعات"! ثم تضيف الجريدة المذكورة: "لكن للرجل تقصد حجازي قصة ورؤية، الأولى مع الثورة حيث كان أحد العقول التى سعت إلى "مأسسة" ميدان التحرير، حتى تتحقق منه الأهداف المرجوة، وبعد الثورة يطرح رؤية جديدة تتجاوز الحزبية والأيديولوجية الضيقة، وتتسم بالعمومية الجامعة"!!
مصطفى حجازي، وكما يبدو من أحاديثه وكتاباته، ينتمي إلى ما يُعرف ب"الأنسنيين الجُدد"(86)، وهو اسم يُطلق على الباحثين في مجال الانسانيات والعلوم الاجتماعية، من ذوي الأساس العلمي! هؤلاء وياللخطر يفكرون مثلهم مثل علماء الكيمياء والفيزياء..الخ، اختلافهم الرئيسي، وربما الوحيد، عن غيرهم من العلماء، هو الموضوع الذى يكتبون عنه، وليس في تفكيرهم الغائي!
في رده على سؤال "المصري اليوم" حول ما اذا كان استبداد الحاكم هو المشكلة الرئيسية، أجاب حجازي بلغة مُهندسي المجتمعات ومُصممي الثقافات: "الأهم من الاستبداد كان نزع الإنسانية، على مدار فترات طويلة سواء كانت قهراً أو طوعاً. وتلك هى البداية الأساسية لأى عملية إعادة هيكلة سواء لشركة أو لوطن(!!)، بأن نعيد الإنسانية أو ما يسمى أنسنة الكيان، وعندما ننتهى من الأنسنة نصل إلى مرحلة وضع الرؤية الكلية، فى إطار هذه الإنسانية، ثم ننتهى إلى ما يسمى المأسسة."! ثم أضاف عالم النفس العيادي: "والأنسنة بمعنى بسيط جداً هى أن نعيد لهذا الكيان المعايير التى يترتب عليها نجاحه أو فشله، فى أى مجتمع، سواء صغر أو كبر، بما يحقق قدراً من الحرية والعدل والكرامة لأشخاصه"!
ونظراً لخطورة حديث حجازي ودلالاته، فيما يتعلق باحترافيته ودوره في تأهيل كوادر الثورة في بلادي مصر، أكتفي ودون تعليق، باقتباس فقرات منه:
"بدأنا منذ أكثر من 10 سنوات مع الكثير من شباب المجتمع المصرى محاولات كى نؤصل هذه الطريقة فى التفكير، لتحفيزهم على نبذ حالة الادعاء الموجودة فى المجتمع المصرى.
"قبل الثورة كان هناك لقاءات متلاحقة مع فئات عمرية مختلفة واعية من الشباب. الكثير من هؤلاء الشباب كانوا من رموز الثورة(المصرية)، وكنا نركز معهم على مفهوم ملكية الوطن، ليكون راسخاً بداخله، وهو ما ظهر فى حملة خالد سعيد، وكلمة البلد بلدنا، وما جاء فى لقاءات من هذا النوع، لكننا لم نكن نعلم كيف نمارس هذه الملكية، ومن هنا بدأت التجليات، التى لا أدعى أننا كلنا أصحابها.
"(..) كانت هناك لقاءات أسبوعية مع سياسيين، ليكتمل المشهد السياسى كله، وكنا متفقين معهم على مشروع إعادة إحياء مؤسسة السياسة المصرية، وكان أحد أسمائه الشائعة هو "البديل الآن"، كى نعيد هيكلة مؤسسة السياسة المصرية على أسس إنسانية جديدة، وكان لدينا أمل أنه خلال سنة أو سنة ونصف تتحول حالة تحريك الوعى هذه إلى شعلة تدفع إلى التحرير الإنسانى، وهذا هو الملمح الذى استطاعت الثورة أن تعيده مرة أخرى، خاصة أن المجتمع كان قد نزعت عنه إنسانيته، وليس الاسترداد السياسى الذى يعد أحد تجليات الإنسانية، وربما يكون أكثرها ظهورا، لكننا لدينا مشاكل أخرى نعيشها حتى هذه اللحظة، وإن كنا معنيين بمعالجتها خلال الفترة المقبلة، ومن هذه المشاكل انتزاع الإنسانية، وفكرة أن تكون الحرية ليست ضرورة عند كتلة حرجة من المجتمع، فإن ذلك لا يبنى عليه المجتمع، ولهذا بدأنا بعودة الإنسانية أكثر من عودة العقل والوعى(!!)، إلى قطاعات من المجتمع المصرى وإعادتهم إلى أوقات خلقت منهم كائناً جديداً يُسمى:
[إنسان حُر مصرى]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.