أرزقية.. تحدوا إعاقتهم ولم يستسلموا لعجزهم.. انتظروا آمال الوظيفة الميري ولكن تأخر وصولها دون جدوى فأصروا على مواصلة الحياة والعمل الشاق ليتكسبوا رزق يومهم بأيديهم.. إعاقات سمعية وأخرى حركية واعاقات فكرية زاد عليها الفقر وقلة الحيلة لم توقفهم ليخوضوا طريق الكفاح «على باب الله». السابعة صباحًا هو موعد خروج «محمود « من منزله بعزبة نصر الله الواقعة على طريق الاسماعيلية / السويس الصحراوي متجهًا إلى عمله بأحد المخابز بمدينة الاسماعيلية قاطعا مسافة تتجاوز ال 20 كيلو تقريبا مستقلا خلالها ثلاث مواصلات حتى الوصول لمقر عمله ليبدأ يومه الذي يستمر حتى السابعة مساء.. بالإشارة يعي «محمود» مطالب الزبائن الذين يترددون يوميا على المخبز الذي يعمل به بحي السلام بمدينة الاسماعيلية. وبلغة الشفايف يدرك محمود مطالب رئيسية في العمل وينفذها بدقة وحرفية..محاولا ان يجتاز حالة السكون التام التي يعيش فيها منذ ولادته لفقدانه حاستي السمع والكلام. وضع محمود يده على رقبته واخرج طرف لسانه في تعبيرا منه عن خنقته من شظف العيش الذي يعاني منه خاصة بعد زواجه وزيادة تكاليف المعيشة مع قدوم طفله الأول.. بالإشارة أدركنا أن محمود يبحث عن فرصة عمل في الحكومة تضمن له حياة كريمة وتوفر له سبل العلاج اللازمة له ولزوجته التي تشاركه في نفس الإعاقة .وبالاشارة حاول أن يوصل لنا انه حاصل على دبلوم الصنايع قسم زخرفة وانه تقدم للعمل بهيئة قناة السويس وبشركة الكهرباء وبالتربية والتعليم وفي القوى العاملة ولكن دون جدوى.. فقد قارب عمره الثلاثين ولم تتح له فرصة عمل سوى هذا المخبز الذي يعمل به لأكثر من 12 ساعة يوميا مقابل يومية 30 جنيها يصرف منها 10 جنيهات في المواصلات يوميا. وتقول سيدة إسماعيل 55 سنة والدة محمود وتعمل عاملة نظافة بإحدى المدارس الخاصة بالاسماعيلية «أنا عندي ولدان وبنت، محمود ترتيبه التاني بين اخواته مواليد 1986 اتولد وهو مصاب بفقدان السمع وعلى الرغم من صدمتي بسبب مرض ابني بس حمدت ربنا وقلت لنفسي اني هكمل رحلة العلاج معاه ومش هسيبه وهدخله المدرسة، كنت كل يوم اخده اوديه المدرسة واجيب منها ورغم ظروف المادية الصعبة وحالة والده التعبانة ماديا بس عمري ما في يوم بخلت عليه لحد لما ربنا كرمه وأخد شهادة الدبلوم من مدرسة الصم والبكم .وطول اجازات الصيف كان محمود بيشتغل في فرن مع واحد نعرفه – رجل طيب ومحترم – وهو كان عارف ظروفنا عشان كده كان وأخد باله من محمود». وقالت: «محمود العام الماضي تزوج من زميلة له اسمها «زمزم» هي ايضا من الصم والبكم وتتعامل معه بلغة الاشارة وانجبوا طفلا عمره اربعة اشهر تقريبا، وكل اللي بطالب به لمحمود انه ياخد حقه ويتعين في وظيفة حكومية تتناسب مع اعاقته، محمود لا بياخد معاش ولا عنده وظيفة». وأضافت: «محمود ذكي جدا وشخصية مرحة ومحبوب من الكل لانه ملتزم اخلاقيا ومواظب على اداء الصلاة في وقتها.. حتى صلاة الفجر محمود مواظب عليها في الجامع وعشان كده الناس بتحبه وصاحب الفرن بيستأمنه على ماله». وتابعت: «إحنا مش بنقدر الناس بتوع الاعاقات ولا نديهم حقهم لا في وظيفة ولا في علاج ولا حتى معاش ... ومحمود اتعرض لحوادث كتيرة واعتداءات بسبب ان الناس الغريبة مش بتكون فاهمة انه أصم وأبكم، انا كل اللي نفسي فيه بس وظيفة لمحمود وهو ده كتير واحنا بلدنا فيها مشروعات جديدة في قناة السويس هنا وهناك». كفاح لم يكن حال أحمد أفضلا من حال «عبد الفتاح « الذي كان يجلس على فرشة صغيرة بشارع العشريني بمدينة الإسماعيلية «عبد الفتاح» ببضاعته من الخردوات والأدوات المنزلية والاكسسورات ينتظر الزبائن يمرون عليه لعل منهم من يلتفت الى بضاعته فيتكسب رزق يومه.. إصابته بعجز بنسبة 50% وتأخر حصوله على وظيفة حكومية تتناسب مع إعاقته لم تقعده عن العمل بل زادته إصرارا على مواصلة الحياة مهما كانت المشقة والتعب. ويقول عبد الفتاح تمام «31 سنة» بائع متجول بالإسماعيلية ومصاب بإعاقة حركية في عظام الظهر والقدمين «أنا لو قعدت في البيت واستسلمت لإعاقتي مين هيأكلني ويشربني ويربي عيالي.. أنا اشتغلت بياع في الشارع رزقي يوم بيوم فوق ويوم تحت.. يوم بنجري ونهرب من المرافق ويوم حر وشمس ويوم برد مطر لكن بنعافر عشان لقمة العيش.. وبقضي اليوم كله واقفا على رجلي رغم ان الدكاترة حذروني من الوقوف الكتير عشان العضم لكن هنعمل ايه لو قعدت هنموت من الجوع». وتابع: «كان لازم أكمل حياتي. أهلي ساعدوني ووفروا لي شقة في بيت العيلة عشان أتجوز فيها وربنا رزقني بولد وبنت.. وبقيت مسئول عن بيت وزوجة وأطفال.. أنا لو كنت قعدت أستنيت وظيفة الحكومة لا كنت هاكل ولا كنت هعيش.. نزلت اشتغلت بياع في الشارع وفي مواسم الأعياد وشم النسيم بشتغل على «مرجيحة» بتاعة واحد جارنا في الجناين.. ده اللي متاح لازم نتحرك ..لكن ده ميمنعش أني فعلا تعبت من الشغل ده ومحتاج أرتاح لكن حد من الحكومة ممكن يسمع صوتي ويوفر لي شغلانة في أي مصلحة باعتبار أني من ذوي الإحتياجات الخاصة». بطل لم يخطر على بال أي من المتوافدين يوميا على هذا المخبز المتواضع بمدينة المستقبل السكنية بمحافظة الإسماعيلية ان «أحمد» حامل الطاولات»ذلك الفتى المتلعثم في حديثه هو بطل العالم في السباحة لسنوات متتالية وانه مثل مصر في بطولات عالمية وحاز على ميداليات فضية وبرونزية لا مكان لها سوى كرتونة صغيرة وضعها اسفل سريره المتهالك. 5 بطولات عالمية في السباحة حصل عليها بائع الخبز الذي يعاني من اعاقة ذهنية محدودة .حصد البطولات وحصل على الميداليات ولم يكرم من الدولة الا ب 100 جنيه فقط .شارك في بطولات العالم للمعاقين في أمريكا الجنوبية واليونان وحصل على مراكز متقدمة لم تجد طريقها للنور إلا في وسائل الاعلام الأجنبية. لم يجد «احمد» الفتي ذو العشرين عاما بعد انتهاء دراسته بالمدرسة الفكرية – المخصصة لذوي الاعاقة الذهنية بالاسماعيلية- غير فرن الخبز المجاور لمنزله ليجد به فرصة عمل تمكنه من تحمل مسئولية اسرته الفقيرة وتوفير العلاج لوالده المريض وشقيقه العاجز، متجاهلا لبطولاته التي حققها طوال الخمس سنوات الماضية مثلما تجاهلتها اجهزة الدولة واعلامها. وملقيا بشهادات التقدير والميداليات التي حصل عليها في بورتوريكو واثينا داخل كرتونة صغيرة وضعها اسفل سريرة المتهالك. بصعوبة وبكلمات مبعثرة قال أحمد عوض سعد «لا أمارس أي تدريب ولا أجد اي اهتمام، كل ما اشعر به الان هو المهانة، فالدولة تتصل بي في اوقات البطولات فقط لامثل البلد وأحصل على الميداليات باسم البلد، في الوقت الذي لا تقدم لي البلد أية مساعدة، فلا يوجد مساعدة في التدريب وتوفير الدورات التدريبية اللازمة حتى أحافظ على لياقتي ولا يوجد اي تكريم مادي او حتى معنوي بعد حصولنا على البطولات ولا يوجد حتى تنويه عنا في وسائل الاعلام المصرية».. داخل شقة صغيرة متهالكة الجدران مكونة من غرفتين وصالة بمدينة المستقبل السكنية يعيش احمد مع والده ووالدته و4 من أشقائه وابناء عمته، مصدر الدخل الوحيد لهم هو كشك صغير ضعيف الامكانيات وخاوٍ من البضائع اقامته احدى الجمعيات الخيرية ليكون مصدر رزق لهم. بالاضافة لمعاش والده من التضامن الاجتماعي الذي يبلغ نحو 350 جنيها فقط. العمل.. شرف حاجته - للجنيهات القليلة التي يتقاضاها من عمله ليصرف على أبنائه الخمسة ويسدد ايجار منزل استأجره مؤخرا - دفعته للعمل في أعمال النظافة باليومية بحي ثاني بالاسماعيلية رغم اصابته بفقدان السمع متجاهلا ما قد يتعرض له من اخطار بسبب اصابته وكبر سنه الذي تجاوز الستين مستندا إلى زميله عم سعيد جاره في نفس القرية ليصاحبه في رحلة العمل اليومية. بلغة الاشارة حاول عم شحاته يسري السيد «65 سنة» الذي اعياه المرض والشيخوخة ان يعبر عما بداخله من خلال صديقه عم سعيد الذي كان مترجما له وبابتسامه طيبة قال بلغة الاشارة «كل يوم أجي من قرية المحسمة التابعة لمركز القصاصين بالاسماعيلية بالقطار بطلع من البيت من بعد صلاة الفجر عشان ابدأ الشغل هنا - مدينة الاسماعيلية - الساعة 8 وبفضل اشتغل لحد الساعة 2 وعلى الساعة 11 كده بقعد اريح شوية هنا تحت الشجرة وبقوم اكمل الشغل». وأضاف: «أنا بعمل باليومية في النظافة ومرتبي الشهري 283 جنيها بس مبناخدش غيرها طول الشهر. أوقات بنسمع عن البدلات وعن مكافآت لكن مفيش حاجة بنشوفها والله ربنا عالم بينا احنا بنتعب اوي وحالنا ربنا وحده عالم به». واستطرد العم شحاته في حديثه بالاشارة «أنا بعرف اكتب اسمي واقرأ لاني دخلت الكتاب وأنا صغير واتعلمت حفظ القرآن بس لما وصلت لسن 12 سنة جالي سخونية شديدة وتعبت وبعدها فقدت السمع والنطق». وأضاف: «حاولت اقدم في أي شغلانة حكومية تبع نسبة ال 5% لكن مفيش حاجة حصلت». وواصل حديثه بالاشارات «أنا كان عندي بيت حجرتين وصالة مبني على ارض زراعية ومن حوالي سنتين جت الحكومة وهدمت البيت عشان مخالف ومن يومها اتشردت أنا وعيالي. واضطررت استأجر بيت في القرية ب 150 جنيها وبدفع مية ونور يعني مصاريف زيادة وكل اللي بناخده 280 جنيها بس، وكمان احنا بنصلح المقشات لما بتكسر على حسابنا ومفيش حاجة بتتصرف لنا لا بدل غذاء ولا بدل ملابس ولا عندنا تأمين صحي، احنا طول النهار في الزبالة شغالين ومتعرضين للأمراض».