من المهم أن نعرف أن المجلس الأعلى للجامعات تاريخيًا أنشئ سنة 1954م «بقرار سياسي»، كان الهدف من إنشائه وضع الجامعات المصرية تحت إشراف وزير التربية والتعليم آنذاك السيد كمال الدين حسين (لاحظ تخصص وتاريخ هذا الوزير آنذاك)، ويقول الدكتور حامد طاهر: «إن هذا القرار هو السبب في التأثير الحقيقي على الاستقلال الأكاديمي للجامعات، وهو ما زال يؤثر حتى الآن في جعلها نسخًا مكررة من بعضها، فأزال مع الأسف خصائص التمايز بينها بحيث إنها ضعفت كلها، وهذا ما حدث، ونحاول تصحيحه بلا جدوى لأن الأثر لا يزول إلا بزوال المؤثر». والمجلس الأعلى للجامعات - حسب نص المادة 18 من قانون تنظيم الجامعات - هو جهاز تابع لوزارة التعليم العالي، وهو يشكل برئاسة وزير التعليم العالي، وهو ما يعني في حقيقة الأمر أنه جزء من السلطة المركزية، لا يجوز لها أن تتدخل في شئون الجامعات باعتبار أن الجامعات هي أشخاص قانونية مستقلة بنص الدستور في المادة 18، والتي تكرس استقلال الجامعات، بل إن هذا الاستقلال تفرضه طبيعة الجامعات كمؤسسات عامة لا مركزية مرفقية كما يقول أساتذة القانون، لكن هذه الاستقلالية أصبحت غائبة في ظل تجاوز القانون، وأصبح المجلس الأعلى للجامعات هو المهيمن على الجامعات التي انهارت وتحولت – كما يقول الدكتور ثروت بدوي - إلى مجرد إدارة من إدارات الدولة التي تخضع خضوعًا رئاسيًا كاملاً للوزير.. بينما نشأت فكرة الجامعة على أساس كونها مؤسسة عامة مستقلة لا تخضع ولا تتبع لأي من الوزراء الذين يمثلون السلطة المركزية، فالجامعة شخص قانوني مستقل وليس للسلطة الإدارية المركزية (مجلس الوزراء والوزراء) على الجامعة، وهي (شخص لا مركزي) إلا مجرد رقابة إشرافية لضمان التزام الجامعة بقوانين الدولة والتنسيق بين الجامعات المختلفة، دون أن يكون لوزير التعليم العالي الممثل للسلطة المركزية التدخل في نظام العمل الجامعي أو شئون أعضاء هيئة التدريس، أو في ملاءمات الدراسة الجامعية، فهذه كلها أمور من اختصاص مجالس الجامعة المختلفة (مجلس الجامعة – مجلس الكلية - مجلس القسم). ونشط الدور السياسي للمجلس الأعلى للجامعات نشاطًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ سنة 2005م عندما بدأ العمل جادًا في الحزب الوطني ولجنة سياساته لتحقيق رؤية التوريث، وأصبح لوزير التعليم العالي دور بارز في توجيه سياسات المجلس والجامعات تبعًا، بل كاد يكون هو الآمر الناهي فيما حدث في الجامعات طوال السنوات التي تولى فيها وزارة التعليم وحتى قيام الثورة، وكان الحرص باديًا في استمراره كوزير للتعليم العالي في حكومة شفيق آخر حكومات الحزب الوطني، والتي أسقطتها الثورة بفضل الله. واختيار رؤساء الجامعات في هذه الأثناء كان محكومًا بسياسات الحزب الوطني ومظلة أمن الدولة ومؤثرات أخرى لا تخلو من أغراض شخصية أو توجيهات ذات العصمة. وتجاوز الوزير كل الأعراف الجامعية والأصول الأكاديمية في تنفيذ هذه السياسات التي شابها أيضًا عصبية شخصية للوزير (راجع الموطن الأصلي لأعضاء المجلس الأعلى للجامعات والقيادات الجامعية الأخرى في التعليم العالي). وبعد قيام الثورة باتت الجامعات من أهم المؤسسات التي تتطلب التطهير والتغيير، واتجهت إرادة الثورة في التغيير للبدء بتغيير القيادات الجامعية، وهو مطلب منطقي، واختيار قيادات جديدة، رأى المجتمع الجامعي أن تكون عن طريق الانتخاب المباشر، وتبلورت الرؤى من خلال استطلاعات للرأي قام بها أعضاء هيئة التدريس حددت الملامح الأساسية لانتخابات القيادات الجامعية. ومنذ قيام الثورة وإسقاط النظام السابق أو رأسه تحديدًا والمناورات قائمة من جانب المجلس الأعلى للجامعات على إهدار أول فرصة لبداية البناء السليم للجامعات المصرية التي يقوم على عاتقها تطوير التعليم الذي هو قاطرة التقدم. وهذه المناورات تتبع - للأسف - ذات الأساليب والأدوات والأفكار التي اعتاد عليها الحزب الوطني، ولا عجب في ذلك، فإنه يمكن القول بأن المجلس الأعلى للجامعات يمثل فرعًا للجنة سياسات الحزب الوطني في وزارة التعليم العالي، التي آلت إليها السيطرة بالمخالفة للقانون على الجامعات بعد إهدار استقلالها. وتنوعت الأساليب بين تجزئة المشكلة وطرح الحلول واتخاذ القرار وإلغاء القرار وطرح رأي جديد للمناقشة من جديد في سبيل تضييع الوقت، والبعد عن الهدف الأساسي، واستمرر التضليل، والوصول إلى اختيار قيادات جامعية جديدة بنفس الرؤية القديمة تكون ذراعًا للثورة المضادة. وآخر هذه المناورات تكشف عن تأصل ثقافة الحزب الوطني في وعي أعضاء المجلس الحالي للجامعات، الذي طرح فكرها أمين تنظيم الحزب الوطني بمصطلحاتها، ويبدو ذلك فيما يطرح الآن بما يسمى ب «المجمع الانتخابي» لرئيس الجامعة لإهدار فكرة الانتخاب المباشر التي يريدها المجتمع الجامعي. ومن المؤسف أن هذا القرار غير الشرعي للمجلس الأعلى للجامعات لم ينطلق من دراسة واقع الجامعات المصرية وبخاصة الإقليمية، ولم يستند إلى معلومات، كما أنه لم يدرس الأثر السلبي على المجتمع الجامعي، وهو نفس المنهج الذي اتبعه الحزب الوطني في انتخاب المجلس المزور الأخير لمجلس الشعب، ويكشف هذا عن رؤية هذا المجلس وهي رؤية لا تنفصل كما أشرت عن ثقافة الحزب الوطني وإبداعات أمين التنظيم فيه!! وتطرح الآراء في إطار المناورات التي قادها ويقودها وزير التعليم العالي السابق والحالي، ومن بينها أن الانتخاب المباشر غير متبع في كل جامعات العالم فيما عدا اليونان. والرد على ذلك يمكن أن يكون أن الجامعات الأجنبية لم تمر بما مرت به الجامعات المصرية من ظروف وتشوهات، من أبرزها سيطرة المجلس الأعلى للجامعات ونفوذه في إطار كونه فرعًا للجنة سياسات الحزب الوطني، ولم تمر باختيار قيادات جامعية يوافق أو يتدخل في تحديد بعض أفرادها أمن الدولة، أو يكون اختيارًا في إطار اعتبارات شخصية أو ضغوط أو علاقات دون اعتبار للمعايير الأكاديمية التي تتبع في اختيار القيادات الجامعية في كل جامعات العالم. وإذا كان الظرف المحلي والمعالجة المباشرة في إطار ما مرت وما تمر به الجامعات المصرية من ظروف استثنائية تجعل الانتخاب المباشر أفضل الحلول ولو بصفة مرحلية إلى أن يتم التطهير دعمًا للثورة والتغيير دفعًا للتقدم في إطار هذا المجتمع الجامعي الواعي بذلك كله. وعندما يعود للجامعة استقلالها تتجه إلى اختيار القيادات في إطار معايير وأسس عالمية تجد المناخ المناسب بعد هذه المرحلة الاستثنائية من التطهير والتغيير بالانتخاب المباشر الحر. والجدل الثائر حول قانونية استمرار القيادات الحالية من عدمه جدل يدحضه تجاوز القانون المتمثل في سيطرة المجلس الأعلى للجامعات على مقدرات الجامعة المصرية وعلى استقلالها، الذي نص عليه الدستور، والدفع بأحقية استمرار هذه القيادات قانونًا يدحضه دراسة الأسلوب الذي تم به اختيارهم، وتقييم دورهم في قضية التوريث، وتقييم أداء الجامعات المصرية الذي ينحدر يومًا بعد يوم، وفشل سياسات تطوير التعليم العالي، وتحقيق جودته، وموقع الجامعات المصرية في سلم ترتيب الجامعات العالمية، وتردي أوضاع هيئة التدريس المادية والأدبية، وغير ذلك من المبررات المنطقية التي تبرر إقالة هذه القيادات، وهي الإقالة التي في إطار أخلاقيات المجتمع الأكاديمي سمح لهم بأن تكون استقالة!! واستقلال الجامعات المصرية قضية مهمة أدركها الدستور، ويجب العمل الجاد على تحقيقها بعد تغيير القيادات الجامعية الحالية، وهو أمر يتطلب رؤية جديدة واعية، تستند إلى مظلة قانون جديد للجامعات تعالج سلبيات المرحلة السابقة، وتؤكد على استقلال الجامعات، وتتيح وضع استراتيجيات داعمة للتطوير والجودة بعيدًا عن التأثير السياسي الموجه أيًا كان، ومستفيدًا من خبرات الجامعات المتقدمة، حتى نستطيع أن نبني جميعًا مصر الحديثة. كلية الآداب – جامعة سوهاج