الذكري ال 42 لنصر أكتوبر حالة خاصة جداً.. ذكري النصر تحل علينا هذا العام، وإسرائيل تعربد في المسجد الأقصى.. تقتل المصلين.. تهدم المسجد.. تغلق الجامع أمام المصلين، ولا تسمح بالدخول سوي للمتطرفين اليهود.. تطلق الرصاص الحي علي قلوب الفلسطينيين.. وفي المقابل نجد صمتاً شعبياً عربياً وإسلامياً غير مسبوق علي جرائم الصهاينة في حق الأقصى وفلسطين المحتلة! وتتزامن ذكري النصر أيضاً مع استطلاع للرأي أجرأه مركز بصيرة أكد أن المصريين يرون إسرائيل هي العدو الأول.. ولكن.. وسط هذا كله تفاجئنا مشاهد مثيرة، تعكس كلها أمراً واحداً، ولكنه مخيف، وهو أن إسرائيل التي قهرناها عسكرياً، وكسرنا أنفها، وحطمنا غرورها عام 1973، وطردنا جنودها من سيناء.. إسرائيل تلك تمكنت خلال السنوات الأخيرة من التسلل إلى قلب الأراضي المصرية!.. وصار لها محبون ودراويش من المصريين، وصل الأمر بأحدهم إلى عمل فيديو، وبثه علي مواقع التواصل الاجتماعي يمجد فيه إسرائيل ويمتدح علمها وعلوها، ويقول بلسان عربي مبين: إن إسرائيل أفضل من كل الدول العربية والإسلامية! وهذا تحول مروع خاصة إذا ما تمت مقارنته بما شهدته مصر طوال العقود الثمانية الأخيرة.. ففي أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي لم يكن مصري واحد، ولا عربي واحد، ولا مسلم واحد، تطاوعه نفسه علي ذكر اسم إسرائيل أو الإسرائيليين، فلقد كان المسمى المتداول علي ألسنة العرب والمسلمين جميعاً، هو «العصابات الصهيونية»، ثم تغير المسمي إلي الكيان الصهيوني، والدولة المزعومة، وفضل البعض أن يسميهم كيان الاحتلال، حتى عندما وقع الرئيس الراحل أنور السادات معاهدة السلام، ظل المصريون يقاطعون ويقطعون كل محاولات التطبيع مع إسرائيل، ويرفضون شكلاً وموضوعاً كل ما هو إسرائيلي، وكان الهتاف الدائم في كل التظاهرات المصرية هو «راح نقولها جيل ورا جيل.. تسقط تسقط إسرائيل». ووقتها كان لفط «المطبع» أحد الشتائم الذي ينأي الجميع بنفسه خشية أن تلتصق به تلك التهمة المشينة -آنذاك- وكان الإعلان بأن سلعة ما إسرائيلية الصنع كفيل بأن يهجرها الجميع ويفر منها فراره من المجذوم ومن الأسد! ولكن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات خطيرة، بدأت بظهور جيل من المصريين يتسلل إلي إسرائيل ويتزوج من إسرائيليات، ويعرض نفسه للخدمة في الجيش الإسرائيلي!.. بينما فضل آخرون الدخول في علاقات بيزنس وتجارة وزراعة مع إسرائيل وإسرائيليين. ورغم هذا التغير المروع في مزاج بعض المصريين، إلا أن الأمر ظل مقصوراً علي شريحة لا تتعدي بضعة آلاف من الشباب الذي اعتبر إسرائيل هي قبلته، وحبه الكبير، فترك مصر وعبر الحدود متسللاً إلى هناك، بينما ظلت الغالبية العظمي من المصريين علي ذات العداء والكراهية لكل ما يمت إلي إسرائيل بصلة. ثم كان التغير الأخطر الذي كشفته المواقع الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية.. هي المواقع التي أنشأتها إسرائيل لكي تمد شباكها لتصطاد أكبر عدد ممكن من المصريين والعرب، وخصصت تل أبيب 19 موقعاً باللغة العربية علي الإنترنت، وكانت المفاجأة أن ذات المواقع لاقت إعجاب واستحسان ملايين المصريين!.. فموقع إسرائيل في مصر، وهو الموقع الرسمي للسفارة الإسرائيلية في القاهرة نال إعجاب حوالي 37 ألف مصري خلال شهور قليلة، والغريب أن أغلب هؤلاء المعجبين من المثقفين والصحفيين ومن يطلق عليهم قادة الرأي! أما موقع «إسرائيل بالعربية» فيحظى بمتابعة أكثر من 2 مليون و300 ألف مصري وعربي!.. ووصل الأمر لدرجة أن موقع «المصدر» القريب جداً من الموساد الإسرائيلي بلغ معجبوه 499 ألف مصري وعربي علي الفيس بوك! أما موقع «إسرائيل تتكلم بالعربية» فنال إعجاب 636 ألفاً و500 مصري وعربي، ونال موقع «شباب ورجال إسرائيل للتعارف ولزواج عربي» إعجاب عشرات الآلاف من المصريين والعرب! ووصل الأمر لدرجة أن الصفحة الشخصية علي الفيس بوك لأفيخاي أدرعي الناطق باسم الجيش الإسرائيلي نالت إعجاب 756 ألف مصري وعربي! وكانت الطامة الكبرى بهوجة فيديوهات تمتدح إسرائيل، والمثير أن أول من أشاد بالجيش الإسرائيلي جهاراً نهاراً كانوا هم كبار القيادات الدينية للإخوان!.. وكانت البداية مع شيخهم الكبير يوسف القرضاوي، الذي يعتبره الإخوان قائدهم الديني الأول ومرشدهم الروحي.. قال «القرضاوي» بالفم المليان في أحد برامج قناة الجزيرة: إن الجيش الإسرائيلي أكثر إنسانية من الجيش المصري في الإنسانية».. ولو اكتفي القرضاوي لكان يمكن أن يقال إنها زلة لسان، ولكن شيخ الإخوان قال أيضاً: إن الجيش الإسرائيلي في حروبه يسعى لإنقاذ بعض الجرحى وينقلهم إلى مستشفياته!.. هذا ما قاله كبير الإخوان عن الجيش الإسرائيلي! وعلي نفس الدرب سار محمد عبدالمقصود الإرهابي الهارب خارج مصر وأعضاء الإخوان الإرهابيين الذي أشاد هو الآخر بالجيش الإسرائيلي ومعاملته للفلسطينيين، ثم أشاد بالقضاء الإسرائيلي، ساردًا رواية الخلاف بين الشيخ رائد صلاح والحكومة الإسرائيلية، وموقف القضاء الإسرائيلي من الأزمة، موضحًا أن الحكومة الإسرائيلية أصدرت قرارًا بإبعاد الشيخ رائد صلاح من القدس لمدة 6 أشهر، فلجأ الأخير إلى المحكمة الإسرائيلية التي ألغت قرار الحكومة وسمحت له بالعودة إلى القدس، وتابع قائلاً: «شوفتم بقى الفرق بين القضاء الشامخ (يقصد القضاء المصري) والقضاء اليهودي»! ومثل كرة الثلج التي يزداد حجمها كل لحظة، لم يقف مدح إسرائيل عند قيادات الإخوان، وظهرت فيديوهات علي موقع اليوتيوب لشباب مصري يتغزل في إسرائيل، بدأها في أغسطس الماضي الطالب المصري المقيم في إسرائيل هيثم حسنين، في خطاب ألقاه بصفته طالباً متفوقاً في برنامج الماجستير الدولي لعام 2015 في جامعة تل أبيب فوصف إسرائيل ب«جنة الله على الأرض».. وبعد أقل من شهر واحد علي هذا المدح العلني غير المسبوق، خرج علينا شاب مصري آخر اسمه شريف جابر عبدالعظيم، الذي نشر فيديو خاصاً على يوتيوب، بعنوان «ليه بتكره إسرائيل»، وعلي مدي 11 دقيقة كاملة راح الشاب الإسماعيلاوي يشرح أسباب تحول موفقه إزاء إسرائيل، من شخص كاره لها إلى شخص عنده الاستعداد لأن يدافع عنها.. وقال إنه أراد يوما أن ينضم إلى «الانتفاضة الثالثة» ضد إسرائيل، مشيراً إلى أنه لم يكن يحب إسرائيل، وأن تطوراً ما طرأ على موقفه بعدما لجأ إلى فحص المعتقدات السائدة فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي–العربي، والتي جعلت من إسرائيل دولة مكروهة ومنبوذة في الشرق الأوسط. ووصلت حالة غسيل المخ التي تعرض لها «جابر» لدرجة أنه قال: إن السبب الرئيسي لكراهية العرب لإسرائيل، وهو أنها قامت على جزء كبير من أرض فلسطين، وبهذا المنطق فإن مصر أيضاً دولة مُستعمِرة، لأنها كانت يوماً أرض الأقباط، وما يسمى «فتح الإسلام» هو في الحقيقة استعمار في السياق التاريخي الحديث. وواصل «جابر» مدحه في إسرائيل فتساءل: «ماذا لو كانت فلسطين اليوم قائمة بدل إسرائيل؟».. ويجيب الشاب أن فلسطين ستكون دولة تنتهك حقوق الإنسان، ضعيفة في اقتصادها وفي قدرتها على الإنتاج. وبالمقابل، يحصي الشاب إنجازات إسرائيل وتفوقها في مجال العلم والابتكارات، مؤكداً أنها دولة قوية اقتصادياً، تساهم في تطور العالم وجعله مكانا أفضل. ويذكر الشاب المصري في الفيديو الذي احتفت به كل المواقع الإسرائيلية أن إسرائيل، خلافاً للدول العربية، تدافع عن حقوق الإنسان، وتحترم المرأة.. وقال: «إسرائيل هي أفضل دولة للبنات.. فلا تحرش ولا قيود ولا معاكسات». جابر إسرائيل! ويستحق «شريف جابر» صاحب فيديو مدح إسرائيل أن نتوقف أمامه، أولا لأن الفيديو الذي طرحه تم تصويره بشكل محترف، وتمت الاستعانة فيه بمونتاج محترف، وتضمن صوراً ووثائق من مصادر أجنبية، وهو ما يعني أن هذا الفيديو تحديدا وراءه جهة ما وليس مجرد فيديو عادي، كما أن طرحه قبيل أيام قليلة من الاحتفال بالذكري ال 42 من نصر أكتوبر، يثير العديد من علامات الاستفهام. والغريب أن «شريف» الذي امتدح إسرائيل بهذا الشكل الفج، كان حتى وقت قريب، طالباً مجتهداً، ففي عام 2010 حصل علي الثانوية العامة من مدرسة الفاروق عمر الثانوية العسكرية قسم أدبي وكان ترتيبه الخامس علي محافظة الإسماعيلية، وبعدها التحق بكلية الآداب قسم اجتماع، وكان قد حصل علي المركز الثاني في الترم الأول وسبب عدم ترتيبه الثاني في الترم الأول لدراسته الجامعية، ولكن في الترم الثاني دخل في مشكلات عديدة مع عدد من أساتذته بسبب دفاعه عن الشذوذ الجنسي، ثم دخل في معركة ثانية بعدما اتهمه بعض زملائه بأنه ملحد، وقدم البعض بلاغات للنائب العام ضده في عهد الإخوان، ووسط هذه الأحداث أهمل شريف دراسته فرسب في الترم الثاني! وحدث أن قام عدد من الطلبة بجمع توقيعات وتقديمها إلى رئيس الجامعة قناة السويس طالبين فتح التحقيق مع «شريف جابر» بدعوى قيامه بإنشاء جروب على شبكة التواصل الاجتماعي «الفيس بوك» بعنوان «الملحدين»، فقام رئيس الجامعة بتحرير محضر بما بدر من الطالب، قامت بعدها قوة من الشرطة بضبطه والتحفظ عليه، للتحقيق معه بتهمة ازدراء الأديان، حيث صدر قرار من النيابة العامة بحبسه 4 أيام على ذمة التحقيقات، وبعدها تبارت كل المنظمات الحقوقية في الدفاع عنه وكان على رأسها مؤسسة حرية الفكر والتعبير والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، و«حركة مصر العلمانية» واصلت تلك المنظمات دفاعها عن شريف جابر لدرجة أنها أنشأت صفحة علي الفيس بوك أطلقت عليها اسم «كلنا شريف جابر»! ولما أحيلت القضية لمحكمة جنح ثالث الإسماعيلية، برقم 7419 لسنة 2014م، وصدر الحكم في فبراير الماضي ب«شريف جابر» بعام وكفالة قدرها ألف جنيه لإيقاف التنفيذ. ومنذ ذلك الحين اختفي شريف جابر، ثم ظهر بفيديوهات علي اليوتيوب يدافع في أحدها عن «العادة السرية» ودافع في الفيديو الثاني عن إسرائيل! ثغرة تسلل إسرائيل إلي عقول المصريين اتخذ شكلاً غريباً آخر يقوم بدور البطولة فيه موقع جوجل، الذي ينشر علي المواقع المصرية إعلانات تروج لجامعات ومراكز بحثية ومراكز تجارية وبضائع وسلع إسرائيلية! وأرجع المستشار حسن عمر خبير الشئون الدولية ظهور مداحين مصريين لإسرائيل إلي حالة الإحباط واليأس التي أصابت البعض في السنوات الأخيرة، بسبب الأحداث الداخلية والإقليمية والعالمية.. وقال: «إسرائيل استغلت هذه الحالة وخصصت مبالغ ضخمة لاستمالة مصريين إليها خاصة بعدما تيقنت أن الشعب المصري شعب جبار بدليل تحويله للهزيمة القاسية في عام 1967 إلي نصر مبهر عام 1973، وبالتالي غيرت تل أبيب استراتيجيتها تجاه مصر من المواجهة العسكرية إلي الغزو الفكري والثقافي». ومن جانبه حذر الدكتور سمير غطاس، رئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية من تواصل محاولات إسرائيل لاختراق عقول المصريين..وقال: «منذ نشأتها, وإسرائيل تسعي لتجنيد جواسيس لها في مصر وتغري ضعفاء النفوس بالمال وأشياء أخرى، وطبيعي مع استمرار المحاولات أن تنجح أحدها في اصطياد جاسوس هنا أو هناك، وهذا يستدعي يقظة دائمة لأجهزة الأمن المصري التي يجب عليها إنقاذ ضعاف النفوس من السقوط في شبكة الجاسوسية». وأكد مجدي عبدالفتاح مدير المركز العربي للبحوث والدراسات أن 70% من مواليد التسعينيات والألفية الحالية، لا يعتبرون إسرائيل عدوا.. وقال: «بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في نهاية السبعينيات تم تغيير المناهج الدراسية، وحذف كل ما يشير إلى أن إسرائيل عدو مصر، وهو ما خلق أجيالاً مصرية لا تري أن إسرائيل هي العدو الأول لمصر». وأضاف «الإعلام الإسرائيلي، والإعلام الغربي عموماً نجحا في تقديم صورة وردية للمجتمع الإسرائيلي، وصوراه وكأنه واحة الديمقراطية وجنة الله علي الأرض، ومع انتشار شبكة التواصل الاجتماعي راجت هذه الأفكار في أغلب دول العالم، ووجدت من يصدقها في مصر نفسها، وفشل الإعلام المصري في مواجهة أكاذيب الإعلام الصهيونى، فكانت النتيجة الطبيعية، هو حدوث تغيير في ثقافة المجتمع، بشكل أدي في النهاية إلي ظهور أجيال لا تعتبر إسرائيل عدواً».