بقلم: كرم سعيد أبوشعبان الأثنين , 05 سيبتمبر 2011 09:52 أسدل الستار أخيراً علي كثير من القيود والتوبوهات الجامدة التي ظلت تكسو وجه الريف المصري، فمنظومة القيم والثقافة السياسية السائدة في الريف قبل 25 يناير اتسمت بدرجة عالية من السلبية وعدم المبالاة، حيث انقسم الريف علي نفسه ما بين طغمة من أعيانه ووجهائه المداهنين للسلطة غير مكترثين بتدني الأوضاع المعيشية والعطب المستشري في جسد الدولة وما بين أغلبية مقهورة مغلوبة علي أمرها خوفاً من بطش سلطة فاشلة. ورغم الثقل الكبير للريف الذي يحمل بين جوانحه كل ما يجعله قادراً علي تفعيل وتجميل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالنظر إلي ثرائه ونقائه وتنوعه، إلا أنه لم يكن قادراً علي تطبيب جراحه الغائرة أو مقاومة أمواج التجاهل العالية طوال عهد الرئيس السابق، والتي عصفت به وزادته انغماساً في همه الداخلي. والأرجح أن النظام السابق عمق من الآثار السلبية التي انتابت الريف، فلم يتحرك قيد أنملة لتخفيف حدة الفقر، وشكل سوء توزيع في الأوساط الريفية عنصراً مهماً في تسخين الاحتقانات الاجتماعية التي تصاعدت لدرجة لم تفلح معها مسكنات حكومات مبارك المتعاقبة في إخمادها أو حتي تهدئتها. وعلي صعيد ذي شأن يذهب لراي بوش الأستاذ بجامعة ليدز البريطانية، وأحد المشاركين في كتاب «مصر.. لحظة التغيير» إلي أن نظام السادات ومن بعده مبارك، أتلف الريف المصري، حتي أصبحت مصر تعتمد علي الواردات الغذائية لتغطي 40٪ من احتياجاتها، وفي ظل قوانين النظام الليبرالي الجديد تم الاستيلاء علي أراضي المزارعين الفقراء، وأحياناً منحت الأراضي الزراعية الخصبة إلي المستثمرين الأجانب، الذين هددت مشاريعهم الضخمة، ليس فقط الأراضي الزراعية ولكن أيضاً بيئة الريف الجغرافية وتركيبته السكانية وطموحاته المعيشية فأصبح بين مطرقة باشوات مبارك وسندان الفقر وسوء المعيشة. ورغم ذلك ظل الريف معلماً أساسياً من معالم البناء الاجتماعي والثقافي في مصر، وتجلي ذلك في انتصاره في مواجهة قيم المدينة والعولمة، والمحافظة علي الهوية والتقاليد والقيم الثقافية والموروثات الاجتماعية التي اهتزت وتلاشت مع تنامي ثقافة الافتتاح. ولذلك كانت رؤية حكم مبارك فادحة حين اعتبر الريف مجرد حظيرة لعقول معطلة وأجساد مستضعفة لا تغني ولا تسمن من جوع، وربما كانت مفاجأة للنظام جموع الريفيين المشاركين في فعاليات ثورة 25 يناير التي أسهمت في إبراء الريف من داء عضال ظل ملازماً له علي مدار العقود الماضية، فقد لعب أصحاب الجلاليب والعمائم في ميدان التحرير الدور الفارق في إنجاح الثورة، فعلي مدار ثمانية عشر يوماً لم تنقطع أسراب أبناء الريف التي هاجرت إلي التحرير وميدانه. وفي سياق متصل، شهد الريف تطوراً إيجابياً فيما يتعلق بمؤشرات الحراك السياسي، فقد جاء مشاركته في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية الذي أجري في مارس الماضي غير مسبوقة، بل إنه كان أحد عوامل الحسم في تحديد بوصلة معركة التعديلات، وبالتالي يمكن القول بكثير من الاطمئنان أن المؤشر السياسي الأهم للثورة المصرية يتمثل في التقدم السريع للريف وأبنائه الجدد إلي بؤرة المشهد السياسي بعد عقود من التكلس والإحباط. كما أن قطاعاً مهماً من شباب الريف الطامحين والطامعين إلي إحداث تغيير سياسي جذري وشامل نجح في اختراق السوق السياسية والاجتماعية المصرية الجديدة، وكان بارزاً، هنا، تشكيل ائتلافات شبابية وجمعيات أهلية إضافة إلي تأسيس صفحات علي «فيس بوك» و«تويتر» وغيرها من أدوات التواصل الاجتماعي، وهو ما يؤشر إلي أن ثمة طوراً جديداً، وتؤشر دراسة حالة قرية المنصورية إحدي قري محافظة الجيزة علي ذلك، فعلي مدار الأزهر الخمسة الماضية تكونت صفحات عدة علي مواقع التواصل الاجتماعي (دعوة للإصلاح والتغيير إصلاحيون الإصلاح والتغيير) إضافة إلي تأسيس (الجمعية الشبابية للثقافة والتنمية)، والتي شرعت في تقديم أنشطة ثقافية وفنية كان الريف أحوج إليها طالما افتقدها كثيراً. والأرجح أن الريفيين الجدد لم يعلنوا تفاعلهم مع الواقع الثوري الجديد في فضاء «الإنترنت» بمنأي عن الأرض، بل تمكنوا من خلق المعادلة الصعبة التي جعلت العالمين الافتراضي والواقعي عالماً واحداً، حيث تشهد الساحة الريفية اليوم حراكاً سياسياً غير معهود وسجالاً ديمقراطياً رائعاً بين مختلف الشرائح والفئات حيال قضايا الوطن وهمومه. المهم أن ثمة مشهداً سياسياً راقياً بات متبلوراً بعقلية ريفية متحضرة نفضت غبار الخوف والسلطة الفاسدة والمفسدة واستعادت كرامتها وحقها في المشاركة في تولي زمام أمورها بنفسها.