الحاجة رتيبة وابنتها فاطمة كتب - محمد السويدي: السبت , 27 أغسطس 2011 23:04 وصلنا إليها بعد معاناة شاقة في صعود سلم ضيق للغاية يلف السواد والظلمة درجاته وجدرانه، وفي السطوح كان موعدنا مع النور، شاهدنا القاهرة من فوق.. ها هي القلعة والبرج ومبنى التليفزيون يقفون في شموخ .. وها هي دار القضاء العالي وسينما ريفولى ونقابة الصحفيين على مقربة من العمارة الأثرية.. فاليوم كان موعدنا مع الحاجة رتيبة على مائدة إفطار أقدم ساكنة في سطوح عمارة جرين. وكنا في منتصف يونيو الماضي قد التقينا بالغلابة اللي فوق، أقصد سكان السطوح في عمارات وسط البلد العتيقة والشاهدة على تاريخ مصر في المائة سنة الأخيرة، في هذه العمارات ، كما تذكرون، الدنيا بحق مقلوبة .. البهوات هم اللي تحت والغلابة فوق، يجمعهم فقط عنوان السكن المشترك. فهذا الدكتور ( ع . ر ) من أشهر أطباء القلب في مصر، وذاك رجل الأعمال ( ص . أ) من كبار تجار الكابلات بالقاهرة لهم نفس عنوان عم عبد الفتاح حارس العقار والحاجة رتيبة الأرملة العجوز (82 سنة) وكلاهما لا يعلمون ماذا سيأكلون غدا لضيق ذات اليد. بعد إطلالة وإطالة في مشاهدة السطوح وما يحيط به من عمارات شاهقة أثرية طرقنا باب الحاجة رتيبة وابنتها فاطمة (وكان ذلك قبل موعد الإفطار بثلث ساعة) ، وبمجرد أن وقعت عيناهما عليّ صاحتا بلسان واحد : " معقولة يا أستاذ محمد ..انت هتنورنا النهاردة وتفطر معانا ، طب كنت عرفنا علشان نجهز حاجة تليق بالمقام إحنا أكلنا على أد الحال". بدا من كلامهم بساطة الغلابة اللى فوق وقناعتهم بما قسمه الله لهم.. سألت الحاجة رتيبة : القناعة اللى عندك من أين أتيت بها ؟! فقالت : "أعلم أن الله لا يعطى الإنسان كل ما يتمناه في الدنيا ، فهو يخبئ له أفضل الأشياء في الآخرة ، وبعدين إذا كنت دلوقتى محرومة من العيشة الحلوة ومتاع الدنيا من طعام وشراب أولاد الذوات ، فقد رزقنى الله بأفضل نعمة وهى الشكر الدائم والدعاء المستمر له بأن يمتعنى بالصحة والعافية، وده في حد ذاته أحسن مائة مرة من طعام وعيشة الأغنياء ". عطش قبل الفطار وبعده في هذه الأثناء كانت فاطمة ابنة الحاجة رتيبة تعد الطعام ،وهي بادية الارتباك، وتضعه على المائدة التي أخرجوها من غرفتهم الصغيرة إلى السطوح احتفاء بي .. لاحظت خلو المائدة من الماء فسارعت بسؤالها : هي لسه شركة التأمين رافضة توصل لكم مواسير المياه؟ همت فاطمة بالرد وقبل أن تنطق كانت أمها العجوز قد جذبتني من يدى وكشفت الغطاء عن (الزير) الذي تشرب منه هي وابنتها لأجده خاويا جافا، وقالت والدموع تسكن عينيها : "نفسي أصلي ومش عارفة.. مفيش ميه أتوضأ بها، حتى في رمضان الشركة مش عايزة تسمح لنا بتركيب موتور والجيران اللى عندهم ميه مرة يعطوا لنا وعشرات المرات يرفضوا". ربت علي يديها ودعوت لها بتحسن الأحوال وأخبرت الأم البسيطة أن تتيمم ولا تنقطع عن الصلاة انتظارا لمياه الشركة، فسألتني في دهشة ممزوجة بالفرحة : ينفع والنبي يا بني؟!! رمضان مالوش طعم السنة دى عندها انطلق مدفع الإفطار وأذن المؤذن وبدأنا في تناول الفطور، ورغم بساطة الطعام إلا أن المائدة ببركة الغلابة وحلاوة اللمة بدت عامرة وكأنها ممتلئة عن آخرها .. وبسؤال الحاجة رتيبة عن صحبة السطوح في فطار رمضان، وكنت قد ظننت أني سأجد أهل السطوح مجتمعين على مائدة واحدة ، قالت: "نجتمع كلنا في السطوح عقب صلاة التروايح، والأطفال يلعبون أمامنا في السطوح كأنه نادى، أمال هيروحوا فين؟" وتضيف : "رمضان فرحته قلت السنة دي ، أكثر حاجة زعلت سكان السطوح هو حالة الشاب سيد جمعة جارنا المصاب بورم خبيث ، حالته بتدهور يوم بعد يوم ومش عارفين نعمل له حاجة". فرغنا من تناول الإفطار وقامت فاطمة بإعداد الشاى وقد تجددت معاناة البحث عن ماء، فقامت مسرعة بإحضار زجاجة مياه معدنية كانت قد قامت بشرائها لمواجهة انقطاع المياه، وفي أثناء ذلك حكت الحاجة رتيبة حكاياتها مع شهر رمضان فوق السطوح قائلة: "رمضان سنة 1950 مختلف بالمرة عن رمضان 2011 ، وكلما مرت السنون كلما كانت حلاوة شهر الصيام أقل ، زمان كان الأطفال يلعبون بالفانوس الصفيح يضعون به شمعة منورة، وكان المسحراتى يمر في شوارع وسط البلد.. وكنا أسرة واحدة نفطر كلنا مع بعض كل يوم، أما الآن فقد تغير كل شئ إلى الأسوأ وهو ما جعلنى أدعو الله أن يستجيب لى بالرحيل من السطوح بعد ما فقد حلاوته، وعلشان اخلص من تهديد الشركة بطردنا عمال على بطال". لم أشأ أن أتركها وابنتها وهي على هذه الحال من الحزن.. فأطلت في جلستي معهما حتى بدأ الأطفال في الخروج للسطوح للعب بفوانيسهم البسيطة ، وتجمع حول الحاجة رتيبة وابنتها أفراد 15 أسرة من سكان الغرف المجاورة ليبدأ تجمعهم اليومي الذي يستمر حتى موعد السحور، يحمدون فيه الله على كل حال ويجترون ذكريات الأيام الجميلة. استودعتهم الله.. وغادرت صحبتهم الجميلة ومعي بعض شباب السطوح الذين رافقوني للمسجد للوضوء استعدادا لصلاة العشاء والتراويح ..ماهي ،على رأي الحاجة رتيبة ، الميه ما بتجريش في العالي..! شاهد الفيديو 3VbIV0BdJM