جنون الأسعار لم يقف مؤخراً عند حد السلع الغذائية، ولكنه امتد إلى الملابس الجاهزة التى اشتعلت أسعارها بصورة غير مسبوقة، طالت حتى الأسواق والمحلات الشعبية التى كان يقصدها متوسطو الحال طالبا للكسوة، وبعد ان كان سعر القميص الشعبى الرجالى مثلا ما بين 40 إلى 50 جنيها، قفز إلى 70 و90 جنيها، ولتصل الزيادة فى المتوسط إلى 40%، اما ملابس الاطفال فحدث ولا حرج، بلغت أسعارها لحد يفوق الخيال، وكأنها ستباع بالجرامات كالذهب، وهذا الارتفاع دفع نسبة جديدة من فئات الطبقة المتوسطة إلى التسلل خلسة إلى أسواق الملابس المستعملة، ليشاطروا الفقراء التنافس على انتقاء وشراء هذه الملابس من وكالة البلح، «الوفد» قامت بجولة فى الأسواق الشعبية، وفى وكالة البلح والموسكى والعتبة لترصد حالة الانتعاش التى أصيبت بها اسواق « البالة « خاصة مع اقتراب موسم رمضان والعيد. أصبحت مصر سوقاً مفتوحاً لتسويق الملابس المستعملة، بعد أن شجع إقبال المواطنين عليها المستوردين لجلب المزيد منها، بل إن بعض اصحاب المصانع وجدوا فى استيراد الملابس المستعملة وسيلة أسرع وأسهل للحصول على لقمة العيش والفرار من أعباء وديون مصانع الملابس الجاهزة فى مصر، خاصة أن سعر الملابس الجاهزة المصرية بلغ إلى حد الجنون، القميص الرجالي يبدأ سعره من 70 جنيهاً ويصل إلى 300 أو أكثر، البنطلون الرجالى يبدأ من 130 جنيهاً، ويصل 250 واكثر، البدلة التى كانت شعبية تبدأ الآن من 280 جنيهاً، اما البدلة العادية فتبدأ من 850 جنيها، فستان الطفلة التى لم تتجاوز 5 سنوات، يبدأ من 90 جنيهاً، إلى ما فوق، قميص النوم للفتيات يبدأ من 135 جنيهاً بيجامة الأولاد تبدأ من 120 جنيها، رغم هذا نجد الخامات رديئة، وتشطيب أو تقفيل المنتج سيئاً، اما الملابس الجاهزة المستوردة، فأسعارها مخصصة للأثرياء فقط، سعر التيشرت يبدأ ب250 جنيها، ويصل إلى 500، البنطلون الرجالى يبدأ ب350، البلوزة تبدأ من 350، والفستان يبدأ من 600 جنبه إلى ما فوق، وهذه الأسعار الجنونية أدت إلى انتعاش سوق الملابس المستعملة لجذب المزيد من المواطنين ذوى الدخل المحدود المتوسط علي حد سواء، وهو ما ظهر جلياً بعد ثورة يناير، كما ان تجارة الملابس الأوروبية المستعملة تمتعت بسمعة جيدة بين المواطنين، باعتبارها التجارة الأولى والأوسع انتشاراً في أسواق الملابس المستعملة على مستوى محافظات مصر، نظراً لرخص أسعارها وجودة معظم منتجاتها، مقارنة بالمحلية والصينية بأشكالها المختلفة، ويتنوع زبائن الملابس المستعملة ما بين الموظفين محدودى الدخل أو المعدمين من الفقراء الذين يحلمون بملابس تسترهم بمبالغ قليلة وأيضاً الطبقة الوسطي، حتى إن بعض الميسورين كان لهم نصيب فى بالة ملابس البسطاء، ولهذا يترددون علي مثل هذه الأسواق بحثاً عن ماركة عالمية ورغبة في توفير الفارق الكبير فى السعر بغض النظر عن معايير جودة المنتج المستعمل، وكانت بداية جولتى من منطقتى العتبة والموسكى، حيث تنتشر ملابس الرصيف بكثافة شديدة، ويحتشد الباعة ب «الفرش» على الأرصفة، وحتى نهر الشارع، وعلى السيارات. وغالباً ما تكون أسعار هذه المنتجات رخيصة، لهذا يطلق المواطنون عليها «كسوة الفقراء»، وبالنظر سريعاً إلى قائمة الأسعار، سنجد أن ال «بلوزة» تباع بسعر 25 جنيهاً، بينما يتراوح سعر الفستان بين (40 - 50) جنيها وتباع الجوارب بسعر 2.50 جنيه. أما منطقة وكالة البلح، فتتسع لتجارة الملابس المستعملة والمستوردة من الدول الأوروبية، سواء الملابس الرجالى أو الحريمى أو الأطفال والملابس الشبابية بجميع الأعمار والمقاسات، ويتم شحنها من الموانى البحرية عبر حاويات (كونتينرات) مغلقة، بعد أن يكون التاجر قد أجرى صفقة شراء تجارية بسعر قليل تمكنه من ربح مال كاف بعد بيعها بالقطع المفردة. وعندما تصل إلى يد التاجر، يقوم عمال بتفريغها، حيث يعمدون إلى فرزها وفصل كل قطعة بحسب جودة الثياب الموجودة فيها، فتباع بعد ذلك بالسعر الذى يريده ذلك التاجر وفقاً لجودة القطعة، فأسعار ملابس الأطفال والشباب من الجنسين تبدأ من 5 جنيهات للقطعة وتنتهى عند 70 جنيهاً، فيصل سعر الفستان إلى 40 جنيهاً، أما ال «بلوزة» فيترواح سعرها بين 10 و 35 جنيها، وال « تونيك « 45 جنيهاً، والبنطلون الجينز الحريمى بين 30 و 50 جنيهاً، والجبردين 50 جنيهاً، فى حين يتراوح سعر القميص الرجالى بين 25 و35 جنيهاً، أما البطاطين بين 30 إلى 75 جنيهاً. وطبعاً.. القطع الأفضل جودة تسمى « الكريمة « ويتراوح سعرها للتجار بين 80 و120 جنيهاً للكيلو الواحد. وهناك النوع رخيص الثمن ويسمى «هردة البالة» ويباع الكيلو منه للتجار بين 25 و45 جنيهاً. حرب من الحكومة أما عن بائعي سوق الترجمان والذين تم نقلهم حيث كانوا سابقا فى شارع 26 يوليو، فيقول هيثم الجيوشي، «أحد باعة الملابس المستوردة المستعملة»، أب ل «3 بنات» هذه المهنة توارثناها عن آبائنا وأجدادنا، ولا نعرف بديلاً عنها، ومع هذا الحكومة تحاربنا فى مصدر أرزاقنا.. فنحن نعمل بالقطعة ونتحمل مخاطر العمل فى هذه المنطقة المهجورة، التى لا تصلح للبيع أو الشراء، ومن ثم قرار النقل أضر بجميع باعة الملابس المستعملة، فلا يوجد زبائن أصلاً، و«مش قادرين نأكل أولادنا ولا يمكننا دفع إيجار السكن أو الإنفاق على أسرنا»، بعدما وافقنا على النقل الفاشل، منذ 6 شهور، نتكبد خسائر مستمرة على مرأى ومسمع من مسئولى محافظة القاهرة، فضلاً عن تعرضنا لمضايقات من أفراد الأمن التابعين لإدارة السوق. وأضاف آخر، بصيغة تهديد، «سأعود إلى الشارع وهموت فى الشارع من أجل لقمة عيشى أنا وأولادى السبعة». وتساءل: كم سأربح من تجارتى هنا حتى أدفع إيجاراً للمكان وفى الأساس مفيش زبائن. واستكمل بائع آخر ويدعى أحمد عوضين، «بائع ملابس جاهزة»، أب ل «3 أبناء»: نحن نعانى مشكلات كثيرة أولها عدم حماية الإنتاج المحلى وذلك بالسماح بدخول المنتجات الصينية للأسواق المصرية وغزوها والبيع بأسعار قليلة لا يمكن منافستها. ويتابع: الحكومة المصرية تفتقد الرؤية الواضحة فى إدارة موارد وخيرات الدولة، فكان من الأولى ان تدعم الصناعة الوطنية وتحافظ على استمراريتها وتطورها بالاستفادة من هذه الموارد الهائلة بالتشجيع على التصنيع والتطور لهذه الصناعة الوطنية. ولا يختلف الأمر كثيراً فى الأسواق الشعبية، عنه فى الأحياء الراقية بمنطقة وسط البلد، وأيضاً شارع قصر النيل الذى ينتشر فيه أيضاً بائعو ملابس الأطفال والملابس الحريمى وال «إيشارابات» التى لا يزيد سعر الواحد منها على 7.50 جنيه. حل لمشاكل الأسر وإذا كانت هناك بعض المخاوف يمكن أن تثور حول الملابس المستعملة، وهل هى نظيفة، وخالية من حمل أى أوبئة يمكن ان تنتقل إلى مستهلكيها الجدد، تلاحظ فى جولتنا أن المشترين لا يعبأون بأى مخاوف، وهم يتوكلون على الله فى هذا، ويرون فى أسواق البالة دوما حلاً لمشاكلهم، وتلبية لمطالب واحتياجات أولادهم فى الكسوة، فتقول ربة منزل وأم لثلاث بنات، وتدعى إقبال محروس، إن رخص أسعار هذه الملابس كان سبباً أساسياً لإقبالنا على الشراء، فأنا أتقاضى معاشاً لا يتعدى مبلغ 360 جنيهاً، من الضمان الاجتماعى، وزوجى متوفى، ولا أقدر على الشراء من المحال التى تعرض منتجات مرتفعة السعر. ويقول عم محمد، وهو رجل على المعاش، إنه منذ سنوات طويلة يعتمد على الملابس المستعملة فى كسوة أولاده الأربعة وكذلك يشترى لنفسه وزوجته، والآن أصبح له أحفاد، ويذهب معهم ايضا إلى أسواق المستعمل ليشترى لهم ما يحتاجون، ويقول «أسعارها مناسبة وعلى قدنا، هو أنا أقدر أشترى لابنى قميص بمئة جنيه ولا «لمراتى» جلابية ب 120 جنيهاً، منين، انا على قد حالى، كنت باشتغل بنا، ولما صحتى تعبت شغال حارس عمارة، ودخلى لا يزيد على 500 جنيه فى الشهر، يعنى أروح اشترى بيهم جلابيتين. يقول الدكتور يحيى الزنانيرى، نائب رئيس قسم المنسوجات للاتحاد العام للغرفة التجارية المصرية: إن موسم الملابس الصيفية ارتفع فى الأسعار بمتوسط من 10 إلى 20 %، رغم تراجع الغزول والأقمشة عالمياً . معللاً أن نسبة المادة الخام من الغزول فى تصنيع الملابس لا تتعدى ال 25%، والباقى مصاريف صناعية ترتفع سنوياً على أصحاب المصانع المحلية، الأمر الذى يتطلب دعم الصناعة الوطنية، حتى يمكن تغطية الاستهلاك المحلى. وأشار إلى أن نسبة الملابس المستوردة فى السوق المحلى وصلت إلى 60% من حجم السوق فى عام 2014، مع توقعات بزيادتها خلال العام الجارى. لافتاً إلى أن تجارة البالة هى تجارة مشروعة ولا تسبب أى أمراض ولم يحظر دخولها يوماً، كما أن سر نجاح أسواق الملابس الأوروبية المستوردة «البالة « بكافة المحافظات ليس بسبب السعر فقط، ولكن الملابس المعروضة عالية الجودة لدرجة أن المنتجات الصينية لن تصل لهذه الجودة، لأن المنتجات الأوروبية لها مقاييس جودة صارمة، لهذا يقبل كافة طبقات المجتمع المختلفة على الملابس الأوروبية المستعملة «البالة» بشكل كبير، نظراً لرخص ثمنه وضيق اليد وتخضع الملابس الأوروبية المستعملة للتطهير بطريقة آمنة ومضمونة من قبل الشركات المتخصصة وأجهزتها الخارجية. وأضاف الدكتور «الزنانيري» أن هناك فرقاً بين المنتجات التى تصنع تحت بئر السلم التى يستخدم فيها البعض أصباغاً رديئة قد تؤدى إلى الإصابة بأمراض خطيرة وبين ما يستورده التجار المصريون من البلاد الأجنبية التى تشتهر بالخامة الجيدة والتصميم الأنيق والماركة العالمية، فضلاً عن رخص أسعارها وهو السبب الرئيسى لرواج هذه البضائع وإقبال المواطنين عليها. ومن جانبه، يطالب محمد المرشدى، رئيس غرفة الصناعات النسيجية باتحاد الصناعات المصرية، بتشديد الرقابة الصناعية على الملابس الموجودة بالأسواق سواء المحلية أو المستوردة، وبذلك بسحب عينات منها، وتحليلها فى المعامل المخصصة لذلك، وفى حالة التأكد من احتوائها على أضرار صحية، تتم مصادرتها فوراً، ويمنع التعامل مع البلاد القادمة منها، إذا كانت جاءت بشكل رسمى. وأضاف : لابد أن تنظر الدولة نظرة جادة للسوق المحلى أو الصناعات الوطنية وإعطاء الأولوية القصوى لتصنيعها وتسوقها حتى تعود بالعائد المجزى على مصر، لأن هناك العديد من المصانع المصرية الصغيرة التى تصنع الملابس ذات المواصفات القياسية الجيدة وتم إغلاقها بسبب انخفاض حركة البيع والشراء للمنتجات المحلية، وهو ما أدى إلى زيادة الدين المتراكم للبنوك. وأشار «المرشدى» إلى أن المنتج المصرى يتعرض حالياً لحالة ركود شديدة بسبب استيراد المنتجات من الخارج سواء كانت مستعملة «بآلة» أو جديدة، وهو الأمر الذى يحتاج بالفعل إلى تقنين لهذه النوعية من المنتجات التى تؤثر بالسلب على الصناعة الوطنية لكونها تنتشر بشكل مبالغ فيه فى جميع أنحاء مصر. وأوضح أن العادة الشرائية للمواطن المصرى دائماً ما يفضل المنتج الأرخص بغض النظر عن جودته، نظراً للظروف المعيشية الصعبة التى يعانى منها جميع فئات وطوائف المجتمع. أما الدكتور محمد خليل العمارى، وكيل لجنة الصحة بمجلس الشعب الأسبق: فيرى ان ملابس الرصيف من الممكن ان تكون سببا فى نقل الأمراض الجلدية، لذلك يجب أن تتأكد الجهات المعنية أن البالة معها شهادة المنشأ وشهادة صحية، لضمان خلوها من الأصباغ السامة أو الأمراض الخطيرة. وأوضح الدكتور «العمارى» أن تصنيع الصين لمصر يختلف بالطبع عن تصنيعها للدول الأوروبية، فمن المعروف أن الصين تصدر لمصر منتجات ملابس من الدرجة الثالثة، بينما تصنع للدول الأوربية الدرجة الأولى. مؤكداً أهمية توافر شروط مهمة لاستيراد البضائع من الخارج وهى بطاقة استيرادية وفاتورة معتمدة من المنشأ وشهادة تفيد بأن المنتجات القادمة من الخارج مطابقة للمواصفات القياسية ولا تسبب أى أمراض وأيضاً يتوافر لدى كل تاجر سجل تجارى وبطاقة ضريبية، حتى أن جواز سفر تاجر البالة يدل على الجهة التي يتعامل معها. تشديد الرقابة يقول الدكتور أحمد أبو النور أستاذ الاقتصاد وإدارة أزمات أن تجارة البالة يجب ان تخضع لرقابة مشددة حتى لا يتم تهريب سلع غير مطابقة للمواصفات القياسية، مما يكون له ضرر علي صحة الفرد، مضيفاً أن هذه التجارة تدخل ضمن الاقتصاد غير الرسمى وهو ليس مسجلاً لدى الدولة ولكن التقديرات تشير إلى أنه يمثل أكثر من 8% من الاقتصاد الكلى لمصر، وذلك طبقاً لأحدث تقرير صادر عن البنك الدولى . وأشار الخبير الاقتصادى إلى أن تجارة الرصيف، هى أحد أشكال الاقتصاد الخفى سواء كانت المنتجات المستوردة مهربة، أو من صناعات «بير السلم» فهى صناعات عشوائية، يقدر حجمها بنحو 50 مليار جنيه، من إجمالى قطاع التجارة الداخلية الذى يقدر بمبلغ 150 مليار جنيه، ويجب ان تخضع لضوابط أو ضمانات للجودة البيئية أو الصحية، ويعمل فيها حوالى 2 مليون شاب . وطالب الخبير الاقتصادى بضرورة إقرار العدالة الاجتماعية على طبقات المجتمع وتحسين أوضاع الفقراء بما يتسنى لهم تجاوز تلك السلع. وشدد على ضرورة إتاحة أسواق كثيرة بسلع أكثر جودة وأعلي سعراً. كما طالب بضرورة تشكيل لجان فحص جديدة، تكون ممثلة من المركز القومي للبحوث ومصلحة الكيمياء وإحدى جهات الفحص والتفتيش، إضافة إلى ممثلين لغرفتى التجارة والصناعة تحت رقابة مصلحة الجمارك وقطاع التجارة الخارجية والهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات لمنع التلاعب في الرسائل المصدرة وتحديد نوعية المنتج المصدر مطالباً بضرورة التكامل بين العاملين بقطاع التجارة والصناعة من تجار وصناع علي حد سواء، لأنه لا يمكن فصلهما، مع أهمية التواصل مع اتحاد الصناعات للارتقاء بالمنتج المحلى، والعمل على حل المشكلات، وضمان استمرار قدرتها التنافسية . أما الدكتور عطية عبد الله، أستاذ الأمراض الجلدية والتناسلية والعقم، فيؤكد ضرورة قيام مسئولى الجمارك بضرورة التأكد من وجود شهادة منشأ للمنتج المصنع فى الخارج، مع توافر «غسالة اتوماتيك»، بحيث لا يتم الإفراج عن الملابس المستعملة «البالة» من الجمارك، إلا بعد إجراء التعقيم والتبخير اللازم لها لضمان سلامتها وحماية المصريين من أى أضرار قد تحملها. وينبه الدكتور جمال حسن السمرة، رئيس الجمعية المصرية للطب المهنى والبيئة، إلى خطورة استخدام الصبغة السوداء فى صناعة الملابس بصفة عامة، لكونها أشد خطورة على صحة المواطنين. مشدداً على ضرورة تفعيل دور الرقابة على المنتجات المحلية، بجانب فرض رقابة صارمة على الواردات من الخارج.