اسمه الإنساني ولقبه الدولي وقد ولد من بطون الحروب ونزيفها وقتلاها وجرحاها وأسراها. وكان طبيب الولادة السويسري الإنسان صاحب القلب الكبير والحس المرهف، قد فجع من هول ما رأي بعد انتهاء الحرب بين الجيوش النمساوية والفرنسية علي أرض شمال إيطاليا عام 1859، إذ وجد ساحة الحرب مكدسة بجثث القتلي والجرحي الذين يعلو صراخهم وعويلهم إلي السماء دون أن ينجدهم أحد بشربة ماء أو دواء أو ضمادات للجراح النازفة دماء. ولا نعرف ما الذي قاده إلي هناك.. ولكننا نعرف أن لله جنود السماوات والأرض وأنه عز وجل رحمان رحيم فأرسل أحد جنود الرحمة وستر جثث الموتي بدفنها.. وجلس باكياً يسأل: إذا كان ذلك كذلك في الحروب فلماذا لا توجد جمعيات أهلية إنسانية تكون جاهزة لنجدة الجرحي وتخفيف آلامهم.. وسجل هذه الأفكار في كتاب نشره علي الأوروبيين عام 1862 تحت عنوان «ذكري سولفرينو» وهي البلد التي شهدت مأساة الحرب النمساوية الفرنسية، وكان الله إلي جواره إذ ذاع خبره وخبر قادة الجيوش المجردين من الإنسانية والذين هربوا أو انسحبوا وتركوا أولاد الناس قتلي وجرحي ومرضي دون نجدة أو عناية، فثارت ثائرة أمهاتهم وآبائهم في وجه الحكومات والقادة العسكريين، ولم يعتمد عليهم السويسري هنري دونان إذ سارع بتشكيل لجنة أهلية دولية لنجدة ضحايا الحروب جعل شعارها علماً أبيض يتوسطه صليب أحمر، وكانت تلك هي أساس الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر التي نظمتها اتفاقيات دولية أحدثها وأهمها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي لعام 1977 ويعمل في الحركة الإنسانية الدولية آلاف المتطوعين، وقد رأينا بعضهم يسعفون ضحايا العدوان الإسرائيلي في صابرا وشاتيلا عام 1982 وضحايا الهجوم الإسرائيلي الوحشي علي غزة في ديسمبر 2008 ويناير 2009 مثلما رأيناهم في يوغوسلافيا عام 1992 وفي دارفور عام 2008 ونراهم هذه الأيام في سوريا ولبنان والعراق ضحايا الصراعات المسلحة واللاجئين بصفة خاصة وهم بالملايين. والاتفاقيات الأربع المنعقدة في چنيف عاصمة الدولة السويسرية قد شملت الأركان الأربعة للقانون الإنساني الدولي، إذ تعني الأولي بضحايا الجنود في الحرب البرية وانصرفت الثانية للعناية بضحايا الحرب البحرية وتعلقت الثالثة بأسري الحرب بينما كانت الرابعة هي مسك الختام لأنها تخصصت في وسائل العناية بالمدنيين وهم أغلبية البشر المضارين بالحرب، ولم يكن غريباً أن ينبعث القانون الإنساني الدولي من عاصمة الدول السويسرية، فهي أجمل بقاع الأرض، إذ حباها الله سبحانه وتعالي بكل النعم وكل الجمال في الطبيعة الخلابة، جبالا عالية تترقرق من قممها جداول المياه إلي أسفل الوادي كثيف الخضرة أشجارا وثمارا وورودا طبيعية حتي يتهيأ للواقف علي قمة عالية أنه قد سبق الزمان إلي الجنة التي وعدها ربنا سبحانه وتعالي لمن رضي عنهم ورضوا عنه من عباده، وجعل منها أرض السلام وحماها من الحروب وكفل المجتمع الدولي حيادها الدائم فلم تلوثها الحرب العالمية الأولي عام 1914 ولا الحرب العالمية الثانية عام 1939 وأصبحت عاصمتها قبلة دعاة السلام في العالم وحماة القانون الإنساني الدولي. هؤلاء عرفوا القانون الإنساني الدولي بأنه «يشمل قواعد القانون الدولي، التي تستهدف في حالات النزاع المسلح حماية الأشخاص الذين يعانون ويلات هذا النزاع وكذلك حماية المباني والممتلكات التي ليس لها علاقة مباشرة بالعمليات العسكرية، ويشمل أيضا المبادئ والقواعد، التي تحد من استخدام العنف غير المبرر أثناء النزاعات المسلحة».. إنه بلسم الرحمة والإنسانية بالفرد خلال النزاع المسلح وبعده حيث تظهر جهود جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر حين تدخل الي الساحة لإسعاف الجرحي والمرضي وإمدادهم مع منظمات الإغاثة الأخري بالغذاء والدواء والعناية باللاجئين الذين نزحوا من ساحات القتال للدول المجاورة كما نشاهد ملايين اللاجئين في الوطن العربي المنكوب بالنزاعات المسلحة. وأكبر النكبات التي حلت به في مناطق النزاعات المسلحة الدولية والداخلية في السودان وسوريا والعراق وليبيا هذه الأيام وكان أسوأها على الإطلاق ما أحدثه تتار العصر الذين يطلق عليهم «داعش» أو الدولة الإسلامية كذباً وبهتاناً عند الحدود السورية والعراقية وداخل ليبيا ذاتها، وحملت لنا شاشات التليفزيون بالصوت والصورة أبشع الجرائم ضد الإنسانية وضد أساسيات وتعاليم الدين الإسلامى عندما قادوا أمام أعيننا واحداً وعشرين مصرياً علي شاطئ البحر في ليبيا وذبحوهم ذبحاً بالسكين حتي تلوثت مياه البحر بدمائهم، والقتلة يرفعون راية الله أكبر ومحمد رسول الله.. من منا يتحمل مشاهدة هذه الوحشية ضد كل مبادئ القانون الإنسانى في الدول التي تحمى الأسرى ولا تجيز قتلهم، وليس في قاموسها استخدام السكين في ذبح الإنسان كما نذبح الشاه، وليس في قاموسها أن يقتلوا الطيار الأردنى الأسير لديهم حرقاً بالنار، وليس في قاموسها سبى النساء وبيعهن في سوق النخاسة حتي شاهدنا فتاة عراقية تدافع عن نفسها ولما نفد رصاص مسدسها فضلت أن تطلق آخر رصاصة علي رأسها حتي لا تقع أسيرة الوحوش.. وحوش هذا الزمان على أرض الرسالات.. موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. وكان أسوأ كل السيئات ما فعله الصرب المجرمون في يوغوسلافيا بنساء وفتيات المسلمين في البوسنة والهرسك.. فلأول مرة في التاريخ نجد أن الاغتصاب سياسة رسمية للدولة الأوروبية في وسط القارة وليست في المجاهل الأفريقية، فقد أثبتت لجنة تقصى الحقائق الموفدة من الأممالمتحدة إلي يوغوسلافيا لإحصاء جرائم حكومتها ورئيسها وقادة جيشها أن الدوافع كانت تصدر بإذلال المسلمين في البوسنة والهرسك وذلك بجمع النساء والفتيات في معسكرات جماعية واغتصابهن مرات ومرات، وحين تحمل يمنعونها من الإجهاض ويقولون لها اولدى ابناً صربياً ويجرحون ضدها جرحاً غائراً علامة على أنها حملت منهم سفاحاً. ولأن ربنا سبحانه وتعالى لا يرضى بذلك الظلم الطاغى فقد هدم يوغوسلافيا الطاغية على رؤوس حكامها وألقى بهم أمام محكمة مجرمى الحرب عام 1993 وانتحر من انتحر منهم وألقى بالآخرين في السجن حتي يلقون في جهنم جزاء وفاقاً، وإن بقيت دموعنا على الضحايا هنا وهناك.