لعل السؤال الأبرز على الموائد الفكرية واللقاءات الحوارية فى العالم كله، هل ستظل القوة والسيادة لأمريكا، تُعطى من تشاء وتمنع من تشاء فى ظل سياسات ظالمة تعودت الكيل بمكيالين، هذه الأسئلة وما يدور فى فلكها ومعناها هى مما تشغل بال المفكرين فى الغرب والشرق على السواء. يبرز الدكتور مصطفى النشار تلك القضية فى كتابه «ما بعد العولمة»، حيث يؤكد انهيار السيادة الأمريكية بحلول 2025 وانتقال السيادة للشرق المضطهد بالأمس، مستنداً فى هذا الرأى إلى عدول المفكرين الغربيين الذين تنبؤوا بانهيار أمريكا مثل روجيه جارودى وأرنولد توينبى وآرنست رينان فى كتاباتهم المختلفة، وأرجعوا أسباب الانهيار إلى ثلاثة أسباب رئيسية، الأول قيام الحضارة الأمريكية والغربية عموماً على المادة وخلوها من كل روح، الثانى سياسة أمريكا الخاطئة فى الكيل بمكيالين وعدم إقامتها ميزان القسط والحق والعدل، الثالث وهو الأهم... حدوث ثورة علمية هائلة فى بلدان الشرق أورثتهم قوة مادية تضاف إلى القوة الروحية الموجودة لديهم، مما يمنحهم القدرة على قيادة العالم فى المستقبل بحلول 2025م. فالصين أصبحت مارداً شارداً غير قابل للتوقف، بحكم عملقتها الاقتصادية، وبحكم هيمنتها على معظم الأسواق العالمية، حتى الأسواق الأمريكية ذاتها، غزتها المنتجات الصينية بحكم رخص سعرها، والأمريكيون باتوا يعرفون ذلك جيداً ولا ينامون الليل من الأرق الذى يحيط بهم، فهم يخشون إنزالهم من فوق العرش، وهم أشد خشية من اعتلاء الشرق، لأنهم كانوا يظنون أن الوريث للسيادة الأمريكية سيكون الغرب وليس الشرق، وهو قطعاً الأقرب لهم بحكم المعتقد والموروث الثقافى، ولكن الصين فاجأت الجميع فأربكت حساب أمريكا وأرقت مضاجعها، وأصبحت تسير بخطى ثابتة نحو تلك الريادة. ويؤكد الدكتور النشار وقوع تلك الريادة للشرق فى أقرب من الضوء، خاصة إذا بذل الشرق يد التعاون، وضرب لنا المثل بعمالقة شرق آسيا الذين خرجوا من الكهوف إلى رحابة العلم والمادة، فأصبحوا فى سنوات معدودة يُشار إليهم بالبنان. وما يلفت النظر فى هذا الكتاب أيضاً أن المؤلف يكاد يكون متأكداً من ريادة الشرق بزعامة الصين، حيث يرى أن الصين ستضم عمالقة الاقتصاد الشرقى إلى كنفها لتقوى بذلك شوكتها، ولتصبح قيادتها للعالم قيادة عادلة محكومة الموازين غير محفوفة بالمخاطر. لكنه يعود ليحث الأمة العربية على مد يد التعاون نحو ذلك التحالف الشرقى بقيادة الصين، وتوجيه الميزان التجارى والاقتصادي ناحيتها لأجل اللحاق بهذا الركب الذى يراه عادلاً، باعتباره محطة من محطات ودورات التاريخ. ثم فى سياق آخر، نجد تأكيد الدكتور النشار على قوة الإسلام وعالمية حضارته وقدرته اللامحدودة على القيادة والريادة، مستنداً فى ذلك إلى شهادات مؤرخين عدول وفلاسفة غربيين، مثل: أرنولد توينبى، الذى أكد فى حوار الحضارات أن الإسلام له جاذبية خاصة، ويتمتع بمبادئ ينعم فيها الجميع بالعدل والمساواة، وتضمن للجميع الحرية والكرامة الإنسانية، ومن ثم فالأمة الإسلامية قادرة على صناعة الفارق التاريخى فى أى لحظة، فقط فى حالة يقظة أهلها وأخذهم بوسائل التقدم دون عزل لبديهيات الدين ومسلمات العقيدة، وبالاستعانة بسُبل العقل وآليات العلم، ليكون ثمة ربط بين العقل والشرع، بين الفكر والدين، بين الوحى والعمل، هنا، وهنا فقط يولد التقدم من رحم الحضارة الإسلامية. وهذه الأفكار أعادها الدكتور النشار منذ عام تقريباً فى كتابه الأبرز على الساحة الفكرية العربية « الأورجانون العربى للمستقبل»، ومع كامل احترامى لما ورد بالكتابين من أفكار، إلا أن السؤال، ما هو موقع مصر فى مستقبل تلك الأيام؟ لم يجد إجابة واضحة وشافية حتى اليوم، ولعل انهيار الغرب وصعود الشرق سيكون بداية ميلاد جديد لحضارة مصرية جديدة متأصلة الأعماق، كل ذلك فى علم الله، فلندع الأيام وحدها تجيب.