الحب بالفطرة أصدق معانى الحب وأكثرها فداء, فحب الطفل لأمه لا يتعلمه الطفل, ولكن يكتسبه مع ميلاده, يروى به ظمأه ويبنى به بنيانه ويزداد به حنيناً وحباً. كذا حب الوطن يفطر عليه المرء, ويزداد به عشقا وتضحية, ولكنه أعمق أثراً, ففى الأول يفطم عنه, وفى الأخير لا يفطم عنه بل يزداد نهما له وعشقا به كلما اقترب منه خطر أو ألم أو سوء. والخوف على الوطن هو ما يحثنا على البحث والتحرى واستخلاص التجارب, للعبور بسفينة الوطن من وسط هذا الموج الهائج الملئ بالصراعات والانقسامات التى تهدد وحدته. فهل نعى جيداً ما تمثله الديمقراطية للشعوب من قيم وأسلوب للتعايش بين أبناء الوطن الواحد, ومن منع السلطة التنفيذية من التغول على شعبها, ومن قدرة الشعب على محاسبة الحكومات ومراقبتها, وحتى لا تشيخ الحكومات فوق كرسى السلطة فتهن معها قوة الدولة ويترهل معها جسدها, فتصبح قيمة مهملة وتخرج من المعادلة بخفى حنين, رقم على يسار الدنيا لا يسمن ولا يغنى من جوع. إن الخيار الديمقراطى هو أحد أهم الأسباب التى قامت بسببها ثورة 25 يناير, به تتحقق العدالة الاجتماعية, به تتحقق قيم العدل, به تتحقق قيم المواطنة وبه أيضاً تتحقق الحرية المسئولة. وعند الحديث عن مفهومى الديمقراطية والأمن معا فيجب الأخذ فى الاعتبار أن العلاقة بينهما علاقة طردية, ولا يمكننا أن نستبدل الحرية بالأمن, لأننا حين نفعل ذلك لن يحق لنا أن نطالب بأي منهما. هنا سيختلف معى الكثير فالوطن فى حالة حرب, الوطن مهدد داخليا وخارجيا, وأنا لا أختلف معهم بل بالعكس, فأنا أرى أضعاف هذه الأخطار على الوطن ولكن لا يستحق العيش معنا فى حضن مصر من يلوح بهذا التهديد. إن لجوء أوروبا للديمقراطية جاء بعد صراع طويل مع الاستبداد والقهر والجهل والمرض, فلم يكن الخيار الديمقراطى عطية من حاكم, ولكنه حق اكتسبته بعد كفاح طويل تسبب فى دمار ودماء, حتى مع الديمقراطية نفسها, فالديمقراطية هى من أتت بأسوأ النماذج ديكتاتورية وفاشية, فهى من أتت بمن نال العالم على يده أبشع مذابح القرن العشرين (أدولف هتلر) ولكن واجهت أوروبا مشاكلها مع الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية, وخلصت العالم ممن يتخذون من الديمقراطية مطية للوصول للحكم، وفرض تطرفه واستعلاءه على باقى الطوائف والأعراق من الشعب, فحاكمت قادة الحزب النازى وأقصت هذا الحزب عن المشاركة السياسية, وهذا ما نريده فى مصر, فمصر لم تعرف المعنى الحقيقى للديمقراطية, فأول برلمان مصرى فى عهد الخديو إسماعيل كان عطية منه حتى يكتمل شكل الحداثة التى أرادها ولم يمثل فيها الشعب الحقيقى, وبعد دستور 23 والأخذ بالنظام الديمقراطى وإنشاء الأحزاب لم تطبق المعانى الحقيقية للديمقراطية من محاسبة ومكاشفة, فحزب الوفد حزب الأغلبية حزب الشعب لم يمثل فى البرلمان على مدى 29 عاماً سوى حوالى 7 سنوات تقريبا متفرقة، وأقصى بالتزوير تارة, وبحل البرلمان تارة أخرى. ولم تتشدق ثورة 23 يوليو بالديمقراطية بل إنها رأتها هدفاً مؤجلاً حتى تقيم العدالة الاجتماعية والتنمية, وجاء الرئيس (السادات) وأعاد التعددية الحزبية مرة أخرى للحياة السياسية ولكنه أراد بها الشكل فقط وليس المضمون, ديمقراطية شكلية لتجميل النظام, وكذلك اتخذها الرئيس (مبارك) وسيلة لترسيخ دعائم سلطته وتوريثها, فرسخت معها قيم الفساد فى التربة المصرية, والآن وبعد ثورة 25 يناير و30 يونية, وبعد صعود الرئيس (عبدالفتاح السيسى) للحكم فنحن نطالبه بترسيخ معانى الديمقراطية فى مؤسسات الدولة وفى العقلية المصرية ووجدان الشعب المصرى، فمصر وعلى لسانه أبقى من الكل, فإن كان للرئيس السيسى فضل فى إنهاء حكم الإخوان نزولاً على رغبة الشعب المصرى, وإن كنا نشعر معه بالأمان والأمل إلا أننا لا نثق فى أحد بعده, لن نثق إلا بمن يأتى بإرادة الشعب, ويقصى بإرادة الشعب, والسبيل لذلك هو الديمقراطية ومزيد من الديمقراطية, فقد جرب الشعب المصرى الرئيس الزعيم, وجرب الرئيس المؤمن, والرئيس القائد, والرئيس الخليفة، فلا يجب أن يجرب الشعب أحداً يفرض عليه, ولكن يجب أن يملى الشعب هو إرادته, ولا سبيل لذلك إلا بالمزيد من الديمقراطية. إن الديمقراطية ليست أفضل نظام للحكم، ولكن هل يوجد ما هو أفضل منها!!! (ونستون تشرشل).