عندما انتقلت المجتمعات الإنسانية، من عصور الهمجية البدائية، إلى شكل الدولة الذي اختارته نمطاً للتعايش بين مختلف فئاتها، عندئذ تم إرساء معنى الدولة كمجتع يربط الناس ببعضهم على أساس قاعدة أخلاقية، تمثل فلسفتهم، فيما هو خير لهم ولمجتمعهم، وتعد ضماناً لاستمرار الحياة والتقدم . ومرت الدولة بمراحل تطور من هذا النمط وتدعمه، إلى أن وصلت إلى مرحلة عقد معاهدة وستفاليا عام ،1648 التي شكلت صورة الدولة الحديثة التي عاشها العالم إلى اليوم، والتي تقر مبدأ احترام سيادة الدولة على أراضيها . ثم عرف العالم في السنوات القليلة الماضية، خاصة بعد وصول حركة المحافظين الجدد في أمريكا إلى الحكم، مع تولى جورج بوش الرئاسة في عام ،2001 وضع نظريتهم للفوضى الخلاقة موضع التطبيق، بما يعني هدم نظام الدولة، الذي انتقلت به المجتمعات الإنسانية من عصور الفوضى والتوحش والهمجية البدائية . وهي النظرية التي كان صاحبها هو مايكل لادين أحد أبرز الخبراء والمفكرين السياسيين بحركة المحافظين الجدد، والذي تم تكليفه من قبلهم في عام ،2001 بوضع خطة مدتها عشر سنوات لتغيير الأنظمة العربية، وكذلك تغيير المجتمعات العربية من داخلها . والمبدأ الأساسي لهذا التغيير، أن يدخل العالم في هذه المنطقة مرحلة اللانظام . وخطورة حالة اللانظام، كما وصفها هنري كيسنجر في كتابه الجديد "النظام الدولي" وانعدام معرفة من يطلقون هذه الحالة، بما سوف يحل محل النظام الذي تغير، وأن ذلك يحتمل أن يقود إلى حرب أهلية فوضوية، تنشط فيها أكثر الأطراف تطرفاً من الجهاديين - حسبما وصفهم كيسنجر . ويشرح كيسنجر دور الولاياتالمتحدة في إيجاد هذه المخاطر، بقراراتها الاستراتيجية المشكوك في نتائجها، لتغيير الأنظمة في مصر، وليبيا، والعراق، وسوريا، وغيرها . ثم يتساءل كيسنجر، هل تستطيع أمريكا المعاصرة أن تخرج العالم من هذا المأزق؟ . . لكنه اكتفى بطرح السؤال دون أن يقدم إجابة مباشرة . وتطرق بعدها إلى ما فعله تنظيم "داعش" في الشرق الأوسط، بالسعي لتفتيت نظام الدولة القومية . وهو تحرك يخلق بيئة حوائية لعالم اللانظام واللادولة . لأن ما تفعله "داعش" يهدم الأساس الذي قام عليه أساس الدولة، منذ اختارته المجتمعات الإنسانية صيغة التعايش، والأمان، والتقدم، والرخاء، وعمل طوائف المجتمع معاً لمواجهة التحديات المتغيرة، التي تواجهها المجتمعات الإنسانية، سواء في مرحلة الانتقال من البدائية، أو في مراحل التطور، وقيام الحضارات، وبناء الدولة، أو في التنافس بين الدول وبعضها البعض . لقد مر العالم منذ فجر التاريخ، بصراعات سعت من خلالها إمبراطوريات وقوى كبرى، إلى فرض هيمنتها على الآخرين، لكن تفكيرها لم يصل إلى حد هدم نظام الدولة الذي ارتضته البشرية لنفسها، إدراكاً منها أن المساس به، يعني إطلاق فوضى ستجرف الجميع، بما فيها الذين أطلقوها من البداية . وفي العصور الحديثة، عندما بدأ الصراع الأمريكي - السوفييتي، فقد سيطرت على كل منها قاعدة فلسفية، يرى كل منهما بمقتضاها، أنه يحمل رسالة للإنسانية، تحمله مسؤولية نشر عقيدته الأيديولوجية عالمياً . ورغم تجهيز كلاهما نفسه بأشد الأسلحة فتكاً، إلا أنه ظل ملتزماً بقواعد الصراع، والتي تقوم على فهمه، بأنه إذا كان يملك توجيه ضربة أولى تدميرية لخصمه، فإن الخصم جاهز بالرد بضربة ثانية، قدرتها التدميرية لا تقل عن الضربة الأولى . ووصلت القوتان في الفترة الأخيرة من حكم غورباتشوف، وقبل أن يتفكك الاتحاد السوفييتي، إلى الاتفاق على مبدأ المنفعة المتبادلة بدلاً من الصراع، كمحرك للسياسة الخارجية . لكن عقيدة الهيمنة لم تكن قد فارقت العقل السياسي الأمريكي، خاصة في المناطق التي فيها مصالح إستراتيجية، وتوجد بها مناطق ضعف يمكنها أن تستغلها لصالحه . من ثم ظهر بقوة مبدأ تغيير الأنظمة في المنطقة العربية، والإيقان ببدائل تكون بمثابة وكلاء للأمريكان، وليس لشعوب المنطقة . وخلت هذه السياسة من الحسابات الاستراتيجية التقليدية، التي تحسب بتبصر المستقبل، النتائج المحتملة لهذا القرار . وكانت النتيجة تورط دول غربية، خاصة الولاياتالمتحدة، في خلق أجواء الفوضى، التي أدركت في وقت متأخر، أنها لن تكون بمنجى من أضرارها . ولعلها أدركت - في وقت متأخر أيضاً - أنها بحاجة شديدة، لوقوف دول قوية ومجتمعات متماسكة، معها، لمواجهة قوى الفوضى التي تفشت بإرهابها في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما لم تكن قد أدركت عندما أسهمت في وضع فرانكشتين، الذي خرج عن قدرتها على تطويعه . نقلا عن صحيفة الخليج