العالم اليوم بصفة عامة وعالمنا العربي بصفة خاصة يسير بواد غير ذي زرع، واد لا حصاد من ورائه سوى الدمار والقتل والابادة لمخلوق أذن الله له بالحياة وخلقه ليعمر الكون ورفعه فوق جميع من خلق وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً، فأصبح هذا الاسنان الذي هو سيد لهذا الكون عبدالاله والصنمية المادية، وتحولت تبعيته من ضميره وفطرته الى الآلة التي صنعها، لتهدم حياته في أقل من لحظة، ولتنقض على حضارته وممتلكاته وتراثه في طرفة عين، فأصبح يعيش حياته مغترباً عن ذاته، يشعر بأنه يسير في الطريق الخاطئ، ولكنه يكابر بحجة القوة، والبقاء للأقوى، وتلك المصطلحات، التي انتشرت في عالم اليوم والتي لا تصلح لادارة الدولة، بل لا تصلح سوى لادارة الغابات. اننا بحاجة ماسة اليوم الى وقفة لتصحيح المسار كلاً وجزءا، وقفة ننظر فيها بعين العقل الى المستقبل التعس الذي سنخلفه لأولادنا، دمار، وحروب، وقتل، وفتك ونرسخ لتلك المفاهيم الباطلة في أقوالنا وأفعالنا ومناهج تعليمنا، فنصور لأولادنا الآخر بالعدو المتربص، والأنا بالمفترى عليها، وإن كان في هذا التصوير جانب صواب لامرية فيه، ولكن الأولى أن نرسخ في أذهانهم ثقافة السلام، لأن الحياة لا تستقسم بدون السلام، وبدون أمن، وبهما يتحقق الرخاء وتنمو اقتصاديات الدول والشعوب. إن ثقافة السلام في الحل للخروج من شبح الفناء، فناء عالم بني حضارات مختلفة المشارب في قرون خلت من عمره، يخيم عليها اليوم شبح الدمار من كل حدب وصوب، حيث انتشار ثقافة الحرب والدمار والقتل والفتك والعنف، ثقافات كلها مضادة للفطرة التي خلقنا الله عليها. إن قتل قابيل لهابيل كان مضاداً للفطرة، وبكاء آدم وصراخ حواء في هذه المحنة القوية لم يكن سوى تعبير عن خروج هذه الحادثة على الفطرة المألوفة، وعلى كل مقتضيات المادة والروح على السواء، لأن النفس لم تألف سوى السلام، ولا تحتاج لكسب معاشها أكثر من الأمن والسلام، لأن الرزق مكفول في مناكب الأرض، فقط يحتاج السعي، والسعي يحتاج الأمان، حتى يأمن الجميع على أنفسهم وعلى أموالهم. ولأهمية هذا السلام الذي ندعو إليه، فقد سمى الله سبحانه نفسه بالسلام «السلام المؤمن المهيمن»، وحيي سبحانه بعض انبيائه بتحية السلام فقال «سلام على آل ياسين» وقال عن يحيى «وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً»، ثم أمر سبحانه بالسلام فقال مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلام «وإن جنحوا للسلام فاجنح لها» بل إنه جعل تحية الملائكة لأهل الجنة هى السلام فقال سبحانه «سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين» وقال «والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليك بما صبرتم فنعم أجر العاملين». والاسلام دين السلام، دين الأمن، يدعو إلى السلام، بل إنه سبحانه سمى الجنة دار السلام فقال «والله يدعو إلى دار السلام» وقال: «لهم دار السلام عند ربهم»، تعظيماً لشأن السلام، ودعوة مباركة من القدير سبحانه إلى التماس سبل السلام، حتى يلتقي المسلمون جميعاً في دار السلام. والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يرسخ لهذا السلام، السلام الاجتماعي، والسلام الأمني، فيقول عليه افضل الصلاة والسلام «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، تلك هى صفات الاسلام الجوهرية، سلامة الناس من لسانك، ليسود سلام اجتماعي خاليا من الغيبة والنميمة اللتين تثيران البغضاء والكراهية بين الناس، وسلامة الناس من يدك، ومن بطشك وانتقامك وظلمك واعتدائك عليهم، ليسود السلام الأمني، الذي يأمن فيه الجميع من شر الجميع وينعم الجميع بالأمن. والترسيخ لهذه الثقافة، ليس واجبا دينيا فحسب، ولكنه واجب ضمائري واخلاقي بالمقام الأول، وهو الطلب القديم المتجدد على الدوام عند اصحاب الضمائر، أفلاطون، منذ ثلاثمائة عام قبل الميلاد، اشترط عند تكوين دولته المثالية ان تؤسس المناهج التعليمية لثقافة السلام وترسخ لكراهية الحروب، ووضع القصص والمسرحيات التي تؤلف للأطفال تحت المراقبة الصارمة لأجل تحقيق هذا الغرض واستبعد كل ما يعادي هذه الثقافة، ثقافة السلام. ونحن إذ نستعدي الفكرة من أفلاطون لنبعثها من جديد، ليس احياء لفكرة قديمة بقدر ما هو تنبيه لضمائر غافلة ونفوس خاملة وذمم استشرى فيها الفساد وغزتها الأنانية، لندق ناقوس الخطر من جديد، نحن ياسادة نورث ابناءنا خراباً وليس حضارة، نحن نتمنى لهم المستقبل السعيد بقلوبنا ولكننا نسلمهم للهلاك بأيدينا، نسوق اليهم الموت على عجل، فهل يستفيق ابناء الجنس البشري ويدركوا مدى الخطر المحدق بهم، ذاك الخطر الذي قد يفضي إلى فناء لا إحياء له، والى موت لا حياة بعده، وإلى ذهاب لا رجعة فيه، هل نؤسس لثقافة السلام، ونرسخ لها، حتى ينعم ابناؤنا بعالم يسوده الأمن ويحفه الأمان وتتنزل عليه الرحمات. لو فعلنا ذلك فسوف يباهي الله بنا ملائكته، ويبارك لنا فعلنا، ويحمد لنا صنيعنا، وإن لم نفعل فذلك هو الخسران المبين.