غالباً ما تتسم المرحلة الانتقالية التي تعقب الثورات الشعبية، بتفاعلات متشابكة، من شأنها تمهيد الطريق نحو بلوغ التحول الديمقراطي المنشود، باعتباره الهدف الأسمى للثورة، بما يعنيه من توجهات تتبني مجمل التطلعات الثورية التي حملتها شعارات الثورة. ونتيجة لذلك تشهد المرحلة الانتقالية ظهور وجوه سياسية جديدة علي الساحة، مثلما تشهد تحالفات جديدة، فضلاً عن تحولات في المواقف السياسية ربما تنشأ عن رغبة البعض في التكيف مع الأوضاع الجديدة، سعياً للحفاظ علي مصالح، أو دفعاً لمقتضيات العدالة الانتقالية بعيداً عن النيل منه، باعتبارها من عوامل نجاح الثورة في بلوغ أهدافها العامة. وبالفعل شهدت الساحة الداخلية في مصر مختلف الملامح السابق الإشارة إليها، إلي جانب غيرها مما هو علي صلة بخصوصية التجربة المصرية، وطبيعة بيئتنا السياسية وسماتها، فكان أن سقطت رموز ظنها البعض أيقونات علي صدر الثورة، وضلت غيرها سواء السبيل الثوري، فراحت تعادي بمواقفها جوهر الثورة التي شاركت فيها بالفعل. وإلي جانب ذلك، صعدت كوادر سياسية جديدة، تعبر بصدق عن مستقبل أفضل، يتخلص فيه المشهد السياسي من ملامح سلبية، رسختها أنظمة فاسدة، لطالما فقد الشعب في ظلها كل رغبة في مشاركة سياسية جادة، أمام ضعف الأمل في نظام سياسي يتبني آماله وآلامه، مثلما ابتعدت القضايا الأساسية للوطن عن أولويات الأجندة الوطنية. من هنا فإن المرحلة الانتقالية، بالقطع كاشفة لكثير من التفاصيل الدقيقة التي يحتفظ بها المشهد الوطني في طياته؛ ومن ثم فهي صالحة، إلي حد كبير، كمعيار يمكن بموجبه تشكيل وتكوين وتوجيه رأي عام باتجاه الكثير من الفاعلين علي المسرح السياسي، كفرز وطني تقتضيه المرحلة المقبلة من عمر الوطن. واليوم فقد بات الوطن علي أعتاب انتخابات برلمانية، بموجبها تكتمل المؤسسات الدستورية للدولة، بوجود برلمان يتولي مهامه علي نحو مسئول، يستوعب خطورة المرحلة، وما نمر به من عثرات تقتضي جهداً صادقاً، ووعياً أكيداً بأن الثورة ماضية في طريقها، بالغة أهدافها، وإن نجحت بعض المحاولات في تشويه ملامح الطريق أمامها. وعليه فإن مجمل ما شهدته الساحة الداخلية منذ قيام ثورة يناير المجيدة، لا يتيح أمامنا الكثير من الخيارات؛ فليس الوطن في سعة من أمره تسمح «بإعادة الفرصة» إلي من فشلوا علي مدى عدة عقود، وليست الآمال العريضة التي اعتلت الوجوه بعد النجاح في استرداد الثورة في الثلاثين من يونيو، يمكن أن تستمر بينما أعداء الثورة يتأهبون لاقتناص مقاعد البرلمان. وليس أفضل من ثورة يناير، بمبادئها وقيمها الإنسانية النبيلة، منهجاً حاكماً؛ بموجبه نجري فرزاً وطنياً حقيقيا، لا لبس فيه، ولا زيف؛ فثورة يناير هي المالكة، علي سبيل الحصر، لامتدادها التصحيحي في الثلاثين من يونيو، وما أنتجه من طموحات تصاعدت معها المسئولية الوطنية الملقاة علي عاتق الرئيس السيسي، وهو يؤسس، برفقة القوى السياسية الثورية المخلصة، لمرحلة جديدة تعلو فيها أهداف الثورة فوق كل اعتبار آخر. فليس فيما شهده المشهد الداخلي منذ ثورة يناير، من تحولات وتفاعلات وتحالفات، وسقوط رموز، وصعود غيرها، ربما لم تكن كلها علي قدر المسئولية، وانكشاف حقائق ظلت مستترة طويلاً، ما ينبغي أن يؤخذ بالسلب علي ثورة يناير، ولا يكفي ليعيدنا علي الإطلاق إلي ما قبل الثورة؛ وبالتالي لا يملك فرد أو جهة تكييفاً منطقياً لعودة نظام مبارك المستبد. والواقع أن ثورة شعبية لم تنهض إلا وأرست قيماً مجتمعية جديدة، وفجرت طاقات مكبوتة، وأبعدت الوجوه الراسخة فوق مقاعدها، وأتاحت كذلك الفرصة أمام البعض من محترفي الأكل علي كل الموائد؛ ومن ثم علينا أن نقبل بنواتج الثورة، ونعمل علي تنقيتها، وتصويب أمرها بين الحين والآخر، دون أن يثير ذلك أدني شك في بلوغ ثورتنا أهدافها. فعودة إلي ما قبل الثورة، لا يصح أن تكون خياراً ثورياً، بل لنا في عثرات ثورتنا من الدروس ما ينبغي أن يزيد إصرارنا علي بلوغ أهداف ثورتنا، وليس لديمقراطيتنا الوليدة أن تسمح لرموز نظام مبارك الفاسد، بالمشاركة بأي جهد في بناء دولتنا الديمقراطية الحديثة، التي لن تتأسس إلا فوق أنقاض نظام مبارك الفاشي؛ فلا عودة لنا إلي الخلف، ولا عودة لهم إلي الصدارة. «الوفد»