معطيات جديدة، ومتغيرات عدة، أفرزتها الساحة الدولية فى سبيلها نحو إرساء منظومة القيم المحددة لطبيعة وسمات الصراع الدولي، وفق ما تستند إليه العلاقات الدولية المعاصرة من توازنات تعلى من شأن القوة الشاملة للدولة. فى هذا السياق، لم يعد قياس قوة الدولة ينحصر فى القوة العسكرية والاقتصادية والبشرية والجغرافية، وما إلى ذلك من عناصر تقليدية، فقد باتت «القوة السياسية» للدولة من العناصر السائدة فى قياس لقوة الدولة، وهى القوة المعبرة عن مدى انسجام الدولة مع القواعد الديمقراطية المتعارف عليها فى المجتمعات المتقدمة. فإذا ما غابت تلك القواعد الديمقراطية عن سياسات وممارسات النظام الحاكم، افتقدت الدولة الكثير من عناصر قوتها السياسية، وتعددت أوجه تصادمها مع المجتمع الدولي، وقد يفيدها فى ذلك، إلى حين، قوتها الاقتصادية، أو العسكرية، أو غيرها من العناصر التقليدية للقوة، غير أن ملمحًا رئيسًا من أوجه القوة، يغيب عنها، حيث لا بديل عنه فى سعيها نحو تحقيق رفاهية شعبها. ولقد حرصت الثورة المصرية المجيدة فى الخامس والعشرين من يناير، على إعلاء شأن الكثير من القيم الديمقراطية التى طالما غابت عن المشهد الوطني؛ ومن ثم أعادت التأكيد عليها فى امتدادها التصحيحى فى الثلاثين من يونيو. فلم تشأ ثورة الثلاثين من يونيو المغالاة فى الإجراءات الاستثنائية، وهو أمر شائع فى عمليات التحول الديمقراطى التى تشهدها الدول النامية، رغم صعوبة التحول، وكثرة وقوة أعداءه، فضلًا عن عمق الدولة الفاسدة التى نهضت الثورة لتزيلها من أمام فرصة الشعب فى اللحاق بطموحاته المشروعة. من هنا كانت خطوات خارطة المستقبل معبرة بصدق عن مضمون الأهداف الثورية، فوضعت خطوتها الأولى دستورًا هو الأفضل فى تاريخ مصر، بما يضمه من قيم ومبادئ تتبنى منظومة القيم الديمقراطية، فى صيغة تتوافق وطبيعة المجتمع المصري، وما تفرضه المرحلة الراهنة من تحديات، ثم جاءت الخطوة الثانية من خارطة المستقبل محققة مطالب الإرادة الشعبية الحرة، فوضعت قيادة الدولة المصرية، وأهداف ثورتها، أمانة وطنية ومسئولية تاريخية فى عنق الرئيس السيسي، باعتباره الرجل الذى تحمل عبء المبادرة بإنقاذ الوطن من هاوية الجماعة الإرهابية. غير أن اختزالًا للأمر فيما سبق من إنجازات، لا يشير إلى جدية واجبة، بموجبها نلتمس سبيلًا صوب جوهر الثورة المصرية، وهو ما يمكن العودة به إلى الحديث عن القوة السياسية للدولة، الأمر الذى يضعنا فى مواجهة مع الكثير من التحديات. فليس يدفع بنا باتجاه بناء دولة ديمقراطية حديثة إلا أن نستكمل المؤسسات الدستورية للدولة، ووفق أسس سليمة، لا تسمح بتمرير أعداء الثورة إلى المشهد السياسى مرة أخرى، باعتبار البرلمان المقبل منوط به تجسيد الدستور فى برنامج عمل وطني. بل أن ما ينتظر البرلمان المقبل من مهام ثقيلة، لا ينبغى فى مواجهتها التراخى فى حمايته من تسلل الأنظمة التى جابهتها الثورة، وأسقطتها الملايين الثائرة، بعد ما أطاحت بالحقوق الأساسية للمواطن المصري، وأهدرت قيمة الوطن، واستبعدت مفهوم الدولة من جوهره ومضمونه. فبرلمان ثورى تنتظره الملايين، ينبغى أن يمهد الطريق أمام حكومة سياسية، تستلهم الإرادة الشعبية الحرة، فى سياسات عامة تتبنى آمال وآلام الناس، وتخضع فى ذلك لرقابة برلمانية حقيقية وجادة؛ وليس إلا ذلك يسحب البساط من تحت أقدام دعاة الفوضى، ويؤكد صدق توجهنا الديمقراطي. فإذا ما نجحنا فى إنجاز مشهد داخلى على هذا النحو، جاز لنا الحديث عن سياسة خارجية تستعيد بها الدولة المصرية ريادتها ودورها كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها؛ فليس بعيدًا عن المشهد الداخلى تصنع السياسة الخارجية؛ وليس أكثر من القوة السياسية للدولة المصرية تعبيرًا عن نجاح ثورتها المجيدة. «الوفد»