أكثر ما يتعجب منه المرء في الخطاب العام السائد منذ 3 سنوات، هو الانشغال بالشخصنة والتصنيف كمقدمة للهجوم والانتقاد وليس النقد والتقويم بخاصة حينما يتعلق الامر بالعمل السياسي والتقدم لمنصب عام او الترشح للانتخابات. فالكثيرون ينشغلون بالأشخاص وليس بالبرامج، ويهتمون بالتصنيفات لا بالأفعال، فما أن يعلن اسم شخص لمنصب، حتى ينصب سؤالهم على انتماء هذا الشخص، وهل هو فلول أم اخواني وهل توجهه ناصري أم ليبرالي أم يساري؟ أما السؤال المحوري الذي يسأل عادة في مثل هذه الحالات بالعالم المتقدم، فيتعلق بمدى كفاءته أو ملاءمته، فيندر الاهتمام به لدى المجتمع. ويذكرني ذلك بنمط من التفكير كان سائدا خلال دراستنا الجامعية حيث كانت تجمعنا جلسات مع زملاء وأصدقاء تضم بعض «المنظرين»، ويحضرني نوعان منهم: الأول مشخصاتي يشخصن الفكرة، و«يفكرن» الشخص، يحرص دائما على تصنيف كل شخص، فهذا ليبرالي وذاك قومي، والثالث «انفتاحي»، فهو صاحب «نظرية التصنيف» أما أطرف تصنيفاته فقد أطلقها على زميل متدين ومنفتح على جميع التيارات - يتحدث عادة بنبرة حادة ومنطق قوي- وقد صنفه صاحبنا بأنه «ظلامي مستنير»! أما النوع الثاني، فكان أحادي التفكير؛ لديه تفسير وحيد لكل الأحداث، فهو يرى أن كل مصائبنا سببها الاستعمار القديم والجديد ولديه قدرة عجيبة على استخراج شواهد لكل مناسبة، يعتمد دائما على نصف الحديث النبوي: «... يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها..» وبناء عليه وضع نظرية «القصعة» ويعتبر أننا نعيش في عصر القصعة، ومقتنع بأن كل الأمم تتداعي علينا، بما فيها «الأممالمتحدة» ! بل اقترح أن يسميها «الأممالمتحدة علينا»! ونسي أن كل الدول الإسلامية أعضاء في هذه الهيئة الأممية! وفي إحدى الأمسيات التي جمعت النوعين (المشخصاتي، والأحادي) كنت أرد على صاحبنا الثاني وأحاول أن أعرض عليه شواهد لأبرهن على أن ليس كل مصائبنا بسبب الآخر وإنما نحن الأفراد سبب رئيسي في حالة الضعف والهوان التي تعيشها أمتنا، فإذا بصاحبنا المشخصاتي يقول إنه يستعصي عليه تصنيفي ويريدني أن اختار التصنيف الذي يناسبني، وفشلت في إقناعه بأنني من ملايين الناس العاديين الذين يشكلون جمهور الأمة، وأننا لسنا بحاجة الى أن نكون ضمن تصنيف محدد لكي نخدم أوطاننا.. ولكن أمام إصراره قلت له ساخرا إنني «شبساوي»، بمعنى ان حال غالبية الناس بعالمنا العربي والإسلامي مثل حال رجل جائع لم يكلف نفسه عناء البحث عن طعام وإنما أكل كيسا كبيرا من «الشبسي»، فأصيب بانتفاخ ، مما جعله بين بين، فلا هو شبعان ولا لديه إحساس بالجوع يدفعه للبحث عن طعام صحي، وفي بقاع كثيرة من عالمنا الإسلامي نجد نماذج من هذا القبيل على مستويات مختلفة؛ فنرى مدارس كثيرة ولا نرى تعليما حقيقيا، نجد جامعات ولا نجد علماء، نجد مستشفيات ولكن نفتقد العلاج،، نجد أحزابا بينما تغيب الممارسة الديمقراطية الحقيقية..، نتلو القرآن الكريم ولا نتدبر معانيه. بل حتى صاحب نظرية «القصعة» ليس استثناء من هذه الحالة ال«الشبساوية» فهو لم يذكر بقية الحديث النبوي، فيقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنكم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قلنا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت». أي ان ضعفنا هو الذي طمع الآخرين فينا، ومن ثم فإن تركيز الحديث كان على حالة الأمة وليس على حالة غيرها. فعلينا قبل أن نلوم غيرنا أن ننظر في حالة «الغثاء» لكي نحوله إلى شيء يصلح للبناء! مضت سنوات عددا منذ انتقدنا ونحن طلبة هذا اللون من التفكير ، ولكن المؤسف أنه لا يزال سائدا ليس فقط بين عامة الناس وإنما أيضا على مواقع التواصل الاجتماعي التي تمثل نتاج أحدث تطبيقات الثورة الرقمية وتكنولوجيا الاتصال، وفي الوقت الذي ينشغل فيه بعضنا بتصنيف خلق الله، يعتقد البعض الآخر أننا نعيش عصر «القصعة»، ربما يقصد القصعة الإلكترونية! غير أن الحياة أكثر رحابة واتساعا من هذين النوعين من التفكير!