جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يوماً فقال: (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى اَلْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)، أى يجمع الناس بعضهم بعضاً لسفك دماء المسلمين ونهب ثرواتهم كما يقول الرجل لأضيافه هيا لنأكل هذا الطعام، هكذا بهذه السهولة وبدون أى مقاومة متوقعة من هذه القصعة بين أيدى الناس يريدون أكل ما فيها، ويتعجب أحد الصحابة من هذا فيقول: (أَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟) كأنه يتعجب من حال المسلمين كيف يصلون إلى مرحلة عدم إبداء أى مقاومة ضد أكلهم من قِبل الآخرين ولا حتى من باب قتال اليائس الذى لا شىء عنده يخسره، وهذا أشرس القتال وأعنفه غالباً، فلذلك سأل الصحابى هذا السؤال فيأتى الجواب النبوى: (بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ اَلسَّيْلِ)، فيزداد تعجب الصحابة: كيف تتحول الكثرة الكاثرة إلى قشرة تافهة تعوم فوق الماء لا قرار لها ولا تملك من أمر نفسها شيئاً؟ ثم يأتى ما هو أعجب، وذلك فى قوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَيَنْزِعَنَّ اَللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ اَلْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اَللهُ فِى قُلُوبِكُمْ اَلْوَهْنَ)، كيف يحدث أن تُحرم الأمة من أهم وسائلها فى النصر التى هى المهابة فى قلب عدوها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث آخر: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)؟ فيتعجب الصحابة أكثر، ويقول أحدهم: (يَا رَسُولَ اَللهِ، وَمَا اَلْوَهْنُ؟) وهنا يأتى البيان النبوى للسبب ليزول به العجب فيقول صلى الله عليه وسلم: (حُبُّ اَلدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ اَلْمَوْتِ). آآآآه آآآآه... إنه الداء القاتل الذى إذا أصيبت به الأمة هلكت وفقدت أهم خصائصها ومقومات وجودها، وإن سيدنا ربعى بن عامر كان شديد الوضوح فى بيان هذه الحقيقة حين سأله كسرى عظيم الفرس من أنتم؟ وماذا جاء بكم إلى بلادنا؟ قال: (نحن قوم ابتعثنا الله لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)، بهذه القوة وبهذا الوضوح يعلن سيدنا ربعى أن هذه الأمة ليست ملك نفسها ولا يعيش الفرد منها من أجل ذاته وشهواته وملذاته بل من أجل غاية كبرى هى نشر الدعوة والخير والحرية فى كل العالم، وأن أمة المسلمين حين تتخلى عن ذلك الدور الرسالى وتنشغل بدنياها ويبقى مواطنوها يلهثون خلف لقمة العيش ولا يستطيعون فى الكثير من الأحيان تحصيلها بشكل كريم فيزيد فيهم الإحساس بالذل والمهانة، ولا يتم تربية الناس على قول الله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ولا قول رسول الله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) وفى هذه الحالة تحتل العراق وتقتل سوريا وتحاصر غزة ويدنس الأقصى بل وربما الحرم المكى والمدنى والمسلمون يشجبون ويعترضون حيناً ثم يعتادون ويتأقلمون فى أحايين أخرى، ويصبح القتل فى بلادنا سلوكاً يومياً معتاداً وربما مملاً ولا يستحق التوقف طويلاً كما قال الشاعر تميم البرغوثى (أرى الموت لا يرضى سوانا فريسة *** كأنا لعمرى أهله وقبائله!) وكل ذلك مبرر ومنطقى فى ضوء الكلمة النبوية الخالدة الموجعة (حب الدنيا وكراهية الموت).