عرفنا كيف تعامل عمرو بن العاص مع ابن المصرى، وقد عُرِف عن عمرو أنه كان شديد الحب للمال.. فلما عرف عمر بن الخطاب أنه يستأثر بجانب مما يجمعه من مصر لنفسه كتب إليه يقول: لم أبعثك إلى مصر لأجعلها له طعمة ولا لقومك.. ثم أرسل إليه محمد بن مسلمة ليجبى من المال فوق ما يجبى عمرو بن العاص.. بل وليقسم أو ليقتسم مع ابن العاص ثروته، على قاعدة الكشف غير المشروع. ولما تولى الخلافة عثمان بن عفان عزل ابن العاص لهذه الحجة.. وولى عبدالله بن أبى السرح على مصر، وكان والياً على الصعيد فقط.. فزاد خراج مصر فى عهده مليونى دينار فى السنة، فقال عثمان لعمرو بأن اللقاح بمصر بعدك قد درت ألبانها فأجابه عمرو بتهكم واضح: ولكنها أعجفت فصيلها.. أى هزل بنوها لقلة ما يجدون من الطعام الذى هو حق لهم.. قبل أى أحد. والمسألة هنا ليست مسألة الخلاف على مقدار الخراج.. بل هى خلاف على أسلوب الحكم نفسه.. فلو كان عمرو بن العاص الوالى الذى يهتم بتعزيز مركزه بأى ثمن لحرص على إرضاء الخليفة.. ومع حقيقة أن عمرو كان يحب جمع المال لنفسه وأهله حباً جماً.. إلا أن أسلوب جمع المال يختلف بين إنسان وإنسان، ولهذا لجأ عمر إلى مصادرة نصف مال عمرو بن العاص.. حتى لا يفتتن الرجل بنفسه.. ولكن ثبت أن رأى عمرو هو الأصوب فى ناحية الخراج.. لأن عبدالله بن سعد بن أبى السرح أخذ يثقل على أهل مصر. وبالذات أهل الإسكندرية إذ سرعان ما حدثت مؤامرة عادت على أثرها أساطيل بيزنطة وجيوش الروم بقيادة منويل فاحتلت الإسكندرية بغير قتال يذكر فلم يكن فيها إلا 1000 رجل من العرب قتلهم الروم جميعاً فى سنة 25 للهجرة أواخر عام 645م.. أى بعد أقل من 4 سنوات من سقوطها فى يد المسلمين وانطلق جيش الروم يفتح دلتا مصر من الإسكندرية ونهب الأموال والقمح والخمر.. هنا طالب أهل مصر العرب بالنجدة.. وسألوا عثمان أن يعيد عمرو بن العاص إلى قيادة الجيش فإن له معرفة بالحرب.. ففعل والتقى الجيشان العربى بقيادة عمرو والرومى بقيادة منويل عند نقيوس ودار القتال شديداً انتهى بهزيمة الروم وانسحابهم إلى الإسكندرية وتحصنوا بها ولكن عمرو استطاع أن يهزمهم.. وطلب المصريون من عثمان أن يعيد عمرو بن العاص والياً.. ولكن لأن الخليفة كان يكره عمرو رفض.. وعرض عليه فقط أن يصبح قائداً للجيش فى مصر، فقط على أن يكون ابن أبى السرح والياً عليها وصاحب خراجها.. فرد عمرو بن العاص إنى إذن كماسك البقرة بقرنيها.. وآخر يحلبها.. ورفض عمرو هذا المنصب. ولكن هذه الواقعة تؤكد صحة نظرية ابن العاص فى ألا يتشدد الحكام فى جمع الضرائب.. حتى لا يرهقوا الناس.. ولكن ضيق أفق البعض يذهب بهذا العدل.. وبالذات أن ابن العاص ربط تحديد خراج الأرض بمنسوب مياه النيل.. إذا زاد.. زاد من الضرائب.. وإن انخفض المنسوب انخفض الخراج.. حتى لا يرهق الناس. ذلك هو الفهم الحقيقى لأصول الحكم.. وأصول العدل الاجتماعى فى الإسلام.. وهو ما يؤكد أن الحاكم الرشيد هو الذى لا يرهق شعبه.. ولا يحلبهم، كما يحلب البقرة. وكان ذلك من أهم قواعد الحكم فى الإسلام. بل والعدل فى تطبيقه. سكرتير عام الوفد