مهما اختلف اسمه، إلا أن مهمته هي إيقاظ الناس ودعوتهم لتناول السحور.. فإنهم يطلقون عليه في سوريا «أبوطبلة».. وفي الكويت والعراق.. «أبوطبيلة» إلا أن اسمه الطبيعي هو المسحراتي، وهي كلمة نابعة من المهمة.. أي دعوة الناس للسحور.. والوسيلة عديدة: ممكن مجرد منادٍ يطوف بالحواري والأزقة ليوقظ الناس، ليتسحروا.. ويبدو أن المسحراتي الأول عرف معني النوم العميق.. وعشق الناس للنوم خصوصاً كلما اقتربنا من الفجر. لهذا لجأ المسحراتي إلي حمل «دف» أو طبلة كبيرة مثل تلك التي نراها في فرقة موسيقي حسب الله.. إلي أن اخترع المسحراتي «طبلة» صغيرة من الفخار.. وأحكم عليها نوعاً من الجلد يدق عليه بعصا رفيعة.. لتحدث صوتاً.. ثم تطورت صنعة هذه الطبلة: من الفخار، أي الطين المحروق، إلي النحاس الأصفر مثل «الهون» النحاسي القديم.. واكتشف أن «جلد السمك» يعطي صوتاً رناناً أكثر من غيره من الجلود.. فصنع جلدة هذه الطبلة.. من جلود الأسماك.. وبرع المصريون في تصنيع هذه الطبلة المجوفة من معدن النحاس وفي صنع جلدة ضرب الطبلة بعد أن كان يضعها في الزيت لعدة أيام لتصبح لينة.. وأطلق المصريون علي هذه الطبلة- بعد هذا التطوير- اسم «البازة». وبسبب ثواب عملية التسحير.. وجدنا والي مصر في العصر العباسي عتبة بن اسحق «عام 238ه يقوم بنفسه بعملية إيقاظ الناس.. وكان يتحمل السير من مقره في مدينة العسكر إلي الفسطاط، العاصمة التاريخية- لينادي الناس، ويدعوهم للقيام.. لتناول السحور.. ثم لصلاة الفجر.. ووجدنا بعدها الحاكم يأمر جنوده بالانتشار في الحارات والأزقة يدقون أبواب البيوت ودعوة الناس.. للتسحر.. ولكن المسحراتي المصري طوَّر هذه المهمة.. فلم تعد مجرد دعوة الناس إلي القيام لتناول الطعام.. بل حوَّل مهمته إلي عملية فنية من الطراز الأول.. فقد عرف المسحراتي عشق المصريين للفن وللسير.. منذ كان «الرواة» يتصدرون المقاهي ومعهم بطانتهم ليرووا للناس السير الشعبية الشهيرة.. وكل ذلك علي أنغام الناي والأرغول والدفوف.. وما تؤديه البطانة من ترديد.. ولذلك كانت المقاهي تروي فيها: السيرة المحمدية، وسير أبوزيد الهلالي، والزناتي خليفة، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، وذو الهمة وغيرها. هنا استعار المسحراتي هذه السير ليجذب الناس.. فأخذ يرويها مسلسلة علي غرار مسلسلات التليفزيون الآن.. ومازال العواجيز منا يتذكرون انجذاب المصريين إلي حلقات ألف ليلة وليلة، الإذاعية.. ثم التليفزيونية. وسلاسل المسلسلات الإسلامية، عمر بن عبدالعزيز.. وهارون الرشيد وغيرها.. المهم أن المسحراتي «الأصيل» كان- «أيضاً»- يقسم مسلسلات إلي 30 حلقة فكان يروي حلقة كل ليلة وهو يقوم بتسحير الناس.. وكان «يحبك» نهاية الحلقة ليشد المستمعين فيستعدوا للاستيقاظ، أي ليستمعوا إلي الحلقة الجديدة.. وكان ذلك هو عمله مسحراتي قسم رابع بدمياط: عم سليمان. ومازلت أتذكره بقامته الفارعة.. والبازة النحاسية في يده اليسري والجلدة في يده اليمني وتمسك ابنته بذيل جلبابه الأبيض بيد.. وتحمل فانوساً بيدها الأخري.. ويمضي عم سليمان يروي حلقات كل هذه السِّير.. حلقة حلقة.. ونحن- بعضنا- يقف في الشبابيك.. وبعضنا علي باب البيت.. وبعضنا يتحلق حول عم سليمان حتي لا تفوته كلمة أو جملة من الحلقة.. وبين كل «مقطع» من الحلقة.. ومقطع آخر كان يردد أسماء كل من في البيت كباراً وصغاراً.. من الذكور والإناث.. ولا أعرف- حتي الآن- كيف كان يحفظ كل هذه الأسماء.. ولم يكن يخطئ أبداً.. ولا مرة.. تخيلوا، بل وكان يتبع كل اسم بجملة تناسب عمره.. بنتاً أو صبية.. ويا سلام علي رنين كلماته التي مازالت ترن في أذني. وعن طريق مسلسلات وحكايات عم سليمان طوال شهر رمضان، عشقت التاريخ الإسلامي وسير العظام.. وتعلمت منها الكثير.. وصبيحة يوم العيد- أو اليوم الثاني- كان عم سليمان يزور كل البيوت التي تولي تسحيرها.. ولكن بموكب مختلف. كان يأتي بينما ابنته تجر جملاً، أي والله جمل يعلوه هودج تتدلي من جانبيه أكثر من «بقجة» أي وسيلة يضع فيها ما تقدمه العائلات لعم سليمان مما صنعته سيدات الأسرة من كعك. وغريبة.. وبسكوت. وقرصة. وسففِّيه.. وأيضا من «الفطرة» أي الياميش، ومن هنا جاء اسم «عيد الفطر».. وأيضا مبلغاً من المال.. كل ذلك مقابل «جميل» المسحراتي لقيامه بإيقاظهم وإمتاعهم طوال ليالي رمضان.. تري هل ورث أحد من أبناء عم سليمان البازة والجلدة.. والفانوس والجمل أم كل هذا انتهي.. بانتهاء هذا الزمن الجميل. زمن المسحراتي الذي كان الملحن الرائع سيد مكاوي آخر ما أداه بما كان عليه.. في ذلك الزمن الجميل.. ويا ليالي رمضان زمان عودي.. فكم أحن إليها وأعشق!!