د. حسن نافعة لم يكن وصول عبد الفتاح السيسي إلى قمة هرم السلطة في مصر حدثاً تقليدياً بأي معيار. فالانتخابات التي أتت به رئيساً للدولة جرت في أعقاب أحداث جسام أطاحت أول رئيس منتخب في تاريخ البلاد. ولأنه سبق للرئيس الحالي أن شغل منصب وزير الدفاع في عهد الرئيس المعزول، فمن الطبيعي أن يصبح هدفاً سهلاً لكل صاحب مصلحة في الترويج لمقولة إن ما وقع في مصر كان انقلاباً عسكرياً حاول التدثر بأغطية شعبية وثورية مصطنعة. ويحاول أصحاب هذه المقولة التدليل على صحتها استناداً إلى أن وزير الدفاع السابق هو نفسه الذي ترشح في انتخابات رئاسية لم يجرؤ على خوضها في مواجهته سوى مرشح واحد لم يحصل إلا على 3 في المئة من أصوات المشاركين فيها! فإذا ما نحينا هذا المنطق جانباً، باعتباره يمثل وجهة نظر أحد طرفي الصراع، وحاولنا تأمل دلالة وصول السيسي إلى قمة هرم السلطة في مصر فسوف نجد أنها محصلة لتراكم أحداث جسام، بدأت باندلاع ثورة الشعب على نظام حسني مبارك في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وتواصلت حتى اندلاع ثورة الشعب على نظام «الإخوان» في 30 حزيران (يونيو) 2013، بصرف النظر عن الموقف الأيديولوجي للأطراف المتصارعة على السلطة من هاتين الثورتين. وتلك حقيقة تكفي في حد ذاتها للتأكيد على أن نجاح أو فشل السيسي سوف يتوقفان في النهاية على مدى قدرته على السير بمصر في طريق مختلف عن الطريق الذي سلكه كل من مبارك ومرسي. والسؤال: هل توحي الخطوات الأولى للرئيس الجديد المنتخب، خصوصاً بعد قراره بتكليف ابراهيم محلب بتشكيل أول حكومة في عهده، بأنه يسير على الطريق الصحيح؟ أخشى أن تكون الإجابة بالنفي لأن البدايات لا تبدو على مستوى التوقعات! فكما جاء قرار السيسي بإعادة تكليف محلب مخيباً للآمال، جاء التشكيل الوزاري الذي أقسم يمين الولاء أمامه محبطاً إلى الحد الذي يبعث على اليأس. فكل ما يجري على سطح الحياة السياسية في مصر يشير إلى أن شيئا لم يتغير، باستثاء اسم الرئيس، وأن مصر لاتزال دولة تبدو حتى الآن عصية على أي تغيير! أسباب كثيرة تدعوني إلى هذا الاستنتاج المتشائم نسبياً، أهمها: 1- إبقاء «حكومة محلب الثانية» على معظم الأعضاء في «حكومة محلب الأولى»، والاكتفاء بفك وإعادة تركيب بعض الوزارات ومنحها أسماء جديدة، وهو تقليد مصري راسخ منذ أقدم العصور يستهدف الإيحاء بتغيير افتراضي يفتقر إلى إرادة سياسية تعمل على نقله إلى أرض الواقع، وإنشاء وزارات جديدة أدت إلى ارتفاع عدد الوزراء في الحكومة إلى 34 وزيراً بالإضافة إلى رئيسها، في وقت تقتضي فيه اعتبارات التقشف والفاعلية تقليص عدد الوزراء في الحكومة بدلاً من توسيعها. 2- إلغاء وزارة الإعلام قبل اتخاذ إجراءات بديلة ينص عليها الدستور لضمان إدارة الشأن الإعلامي بمفهوم جديد، رغم أن حكومة محلب الأولى تمتعت بما يكفي من الوقت، منذ دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ في كانون الثاني الماضي، لتصبح مستعدة لمثل هذه الخطوة. 3-غموض الأسباب التي دفعت بمحلب لإنشاء وزارة جديدة تحت اسم «التطوير الحضري للعشوائيات» رغم إدراكه التام لحقيقة أن التصدي لمشكلة بمثل هذه الضخامة والتعقيد يحتاج إلى رؤية شاملة وتضافر جهود مؤسسات عديدة قائمة لترجمتها إلى واقع أكثر مما يحتاج إلى وزارة جديدة، اللهم إلا إذا كان الهدف هو مجرد الاحتفاظ لوزيرة قديمة بأي مقعد في الحكومة الجديدة. 4- بدا محلب، حين راح يبحث عن أسماء جديدة تحل محل الوزراء الذين تقرر الاستغناء عن خدماتهم، وكأن السبل ضاقت به ولم يجد أمامه سوى البحث في دفاتر قديمة عن أسماء لم يثبت أنها تركت بصمة من أي نوع في مواقع وزارية شغلتها من قبل. 5- أثار قرار الاستغناء عن وزير الخارجية نبيل فهمي تساؤلات عديدة تشكك في نبل دوافعه الحقيقية. فقد ثبت بالدليل القاطع أن فهمي يعد من أكفأ من تولوا منصب وزير الخارجية في السنوات الأخيرة، وأنه نجح إلى حد كبير في ترميم صورة مصر المتهالكة في الخارج، خلال فترة قياسية، وفي لحظة بالغة الصعوبة والحساسية. ولا أعتقد أن هناك مبالغة في القول إنه ربما كان الوزير الوحيد في حكومة محلب الذي امتلك رؤية متماسكة، وكان حريصاً على التشاور مع أهل الاختصاص والفكر قبل أن يتحرك أو يقرر. وإن دلّ خروج هذا الديبلوماسي الوطني المخضرم من أول حكومة تشكل في عهد السيسي على شيء فإنما يدل على أن الأمور لا تسير في الطريق الصحيح ولاتزال تتسم بقدر كبير من الارتباك. ويبدو أن دخول الحكومة في مصر، أو الخروج منها، ما زال يعتمد على الشللية وعلى تقارير الأجهزة الأمنية، ويؤكد بالتالي فقدان الحس السياسي الملهم وغياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة. ليس لدي علم بالأسباب الحقيقية التي دفعت السيسي إلى تكليف محلب بتشكيل أول حكومة، ولست مقتنعاً بجدوى التفسيرات التقليدية التي ترجع هذا القرار إلى أن فترة تولي هذه الحكومة المسؤولية ستكون فترة محدودة، اذ يتحتم تغييرها عقب انتخابات برلمانية يتعين توجيه الدعوة لإجرائها بعد أسابيع قليلة، كما يتعين الانتهاء منها خلال أربعة أو خمسة أشهر على أكثر تقدير. فقد سبق للسيسي أن صرح أثناء حملته الانتخابية بأن التغيير الذي يصبو إلى تحقيقه لن ينتظر الانتخابات البرلمانية وسيبدأ فور تنصيبه إذا قدر له أن يفوز بالمقعد الرئاسي. غير أن الشعب لم ير من بشائر التغيير حتى الآن سوى إشارات رمزية، ربما تعكس توافر قدر كبير من همة لا تشي بالضرورة بوجود رؤية تنير أمامها الطريق أو بوصلة تساعدها على رصد اتجاه الحركة. وفي هذا السياق يمكن إدراج العديد من المبادرات غير التقليدية، من قبيل «ماراثون الدراجات» الذي دعا إليه السيسي وقاده بنفسه، وقيام الحكومة الجديدة بأداء اليمين الدستورية أمامه في الساعة السابعة صباحاً. وفي ظني أن تأثير هذا النوع من المبادرات «على الطريقة الأميركية»، كما يطلق عليها المصريون، محدود زمنياً بطبيعته، وربما يأتي بنتائج عكسية على المدى الطويل. لاتزال قطاعات عريضة من المصريين تأمل برئيسها المنتخب خيراً وترى فيه الرجل القادر على إخراج البلاد من أزمة تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. غير أن قرار السيسي بتكليف محلب بإعادة تشكيل الحكومة يوحي بأن الدولة المصرية «العميقة» لاتزال عصية على التغيير وغير قادرة على التعلم من أخطاء الماضي والاستفادة من دروسه. فقد سبق للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن ارتكب خطأ كبيراً حين اتخذ قراراً بتكليف الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، برئاسة أول حكومة تشكل بعد ثورة 25 يناير. فقد حمل هذا القرار في طياته رسالة ضمنية تشير إلى أن الجهة التي آلت إليها إدارة المرحلة الانتقالية عقب تنحية مبارك، لم تصل إلى آذانها مطالب التغيير التي انطلقت من ميدان التحرير. وسبق للدكتور مرسي أن ارتكب خطأ لا يقل فداحة حين أقدم على اتخاذ قرار باختيار هشام قنديل لرئاسة أول حكومة تعين في عهد أول رئيس «إخواني» منتخب في تاريخ البلاد. فقد حمل هذا القرار في طياته رسالة ضمنية تشير إلى أن الرئيس «الإخواني» الذي انتخبه الشعب المصري على مضض يصر على التمكين لجماعته بأكثر من حرصه على أن يصبح رئيساً لكل المصريين. أخشى أن يكون السيسي، الذي اختاره الشعب رئيساً بما يشبه الإجماع بعد ثورة التصحيح، قد استدرج نحو المنزلق الخطر نفسه. لذا تمنيت لو أقدم السيسي على واحد من خيارين: الأول: أن يترأس أول حكومة تشكل في عهده، وأن يختار بنفسه الأشخاص الذين يتصور أنهم الأقدر على تنفيذ رؤيته للنهوض بمصر. وهذا هو الخيار الذي كنت أفضله شخصياً لأنه لا يتناقض مع الدستور في المرحلة الحالية، ويتيح للرئيس المنتخب في الوقت نفسه استخدام شعبيته الكبيرة في التأسيس لنظام سياسي يساعد على المضي قدماً نحو تنفيذ خريطة المستقبل من دون عراقيل تؤدي إلى انسداد أفق التحول الديموقراطي. والثاني: أن يقوم بتكليف شخصية سياسية تتمتع بما يكفي من الاحترام لتشكيل حكومة تتمتع بالحد الأدنى من توافق مجتمعي يسمح بعبور حاجز الانتخابات البرلمانية بأقل قدر من الخسائر أو الهزات السياسية. أتمنى مخلصاً ألا يشكل اختيار محلب لتشكيل «حكومة موظفين» خطوة تدفع بمصر نحو الانزلاق إلى طريق يفضي إلى المجهول أو إلى الدوران في نفس الحلقة المفرغة مرة أخرى. نقلا عن صحيفة الحياة