من القضايا الشائكة التي حان الوقت لمناقشتها، قضية وسطية الخطاب الديني وتسامحه، حيث إننا غالبا ما نربط بين الوسطية والتسامح، وبين عدم الوسطية والتطرف والتشدد والإرهاب، فهل بالفعل الخطاب الدينى الوسطى يتسم بالتسامح؟، وهل كل ما يخالف الخطاب الموصوف بالوسطى يعد خطابا متشددا أو متطرفا أو إرهابيا؟، من الذي يحدد ويقيم ويميز بين الوسطى وغير الوسطى؟، ما هي ملامح الخطاب الديني الذى يمكن أن نصفه بالوسطية؟، والسؤال الأكثر صعوبة ويحتاج بالفعل نوعاً من المكاشفة الحقيقية هو: لماذا دائما ما يكون الخطاب الدينى الرسمى التابع للنظام الحاكم هو الخطاب الوسطى والمتسامح وأن الخطابات المخالفة أو المغايرة أو المضادة غالبا ما يتم تصنيفها فى الخطابات المارقة والمتشددة والمتطرفة والإرهابية؟، لماذا فى الغالب ما يكون المذهب الرسمي التابع للحاكم هو المذهب المتوافق وشرع الله وما يخالفه من المذاهب أقرب للتشدد؟. المشكلة أعقد بكثير مما نطرحه ونتصوره، وتحتاج بالفعل لمجهود وصبر لفك التشابك بين العديد من المفاهيم والاصطلاحات والعلاقات والمصالح، ونظن أن أول خطوة فى محاولة فض الاشتباك تكون مع تحديد بعض المصطلحات والمسميات، والبداية دائما وغالبا ما تكون من الخطاب الرسمى للنظام الحاكم. المتعارف عليه تاريخيا أن ديانة الدولة الرسمية هى الديانة المنزلة من السماء والتي تفتح الباب للمؤمنين بها لدخول الجنة، وما عدا هذه الديانة فهو إما محرف أو منتج بشرى لا علاقة له بالسماء، والمتعارف عليه كذلك أن داخل كل ديانة العديد من المذاهب، وأن المذهب الذي يتبناه النظام الحاكم هو الأقرب لله عز وجل، وهو الأقرب للكتاب المنزل من السماء، وإذا جاز لنا أن نقدم نموذجا فأمامنا الدولة الإيرانية، حيث يسود المذهب الشيعي الإثنى عشري، وفى مصر المذهب السني ، وفى سلطنة عمان يسود المذهب الأباضى، وكل نظام حاكم فى هذه البلدان يرى أن المذهب السائد هو المذهب الأقرب لكتاب الله، وأن ما يخالفه من مذاهب يعد تأويلا أو تجاوزا أو ابتعادا عن شرع الله، لهذا أنشأت هذه الأنظمة الحاكمة المؤسسات الدينية التي تخدم وتكرس لهذا الخطاب المذهبي، وبالطبع سدنة المؤسسات الدينية أو سدنة المذهب لا يتقيدون بالموروث الفقهي المذهبي، بل يساهمون ببعض القياسات فى المسائل المستحدثة، كما أنهم وهو الأهم ينتجون ما يخدم على سياسة الحاكم وبقائه على رأس الدولة، وما يخدم على بقائهم هم كسدنة فى مناصبهم، والأمثلة فى هذا السياق متعددة ومتنوعة، على رأسها منح الحاكم وسدنة المؤسسات الدينية حصانة شرعية تحصنهم من الخروج عليهم أو انتقادهم أو عزلهم، مثل تشديد بعضهم على عدم الخروج على الحاكم لتجنب الفتنة، ومنها الخلط بين الاجتهاد وبين المجتهد وبين الشريعة، فتوجيه انتقادات لمنتج فقهى يعد انتقادا لشرع الله، كذلك انتقاد المؤسسة أو السدنة فيه خروج على الملة. قاعدة التحصين أو فرض الحصانة حول الحاكم وبطانته من سدنة المذهب، هى من أولى خطوات تسييس شرع الله، وتسخيره في التكريس للنظام الحاكم، والخطوة الثانية في هذه اللعبة هى تحصين المذهب، حيث يقوم السدنة بإنتاج ما يشوه أو يكفر أو يحرم الخروج على المذهب، لأن الخروج على مذهب أو الخطاب الديني للحاكم فيه هدم للدولة، من هنا يتم تكفير أو تحريم أو تشويه من يدعون لمذهب آخر، ويتم وصفهم بالخوارج أو الروافض، لأن تغيير المذهب يعنى بالضرورة تغيير الحاكم وسدنته وبطانته ونظامه ككل. النقطة الثالثة فى تحصين الحاكم والمذهب وسدنته، الحد من حرية الاجتهاد خارج المؤسسة الرسمية، وتشويه سيرة وفكر من يقدمون اجتهادات قد تكشف ضعف بعض السدنة فى المؤسسة الرسمية، ربما بوصفهم بالجهل أو التأويل أو عدم التخصص، وإقناع الحاكم بخطورتهم على المذهب والنظام الحاكم ككل. المبرر فى تحصين المذهب ومؤسساته وسدنته أمام العامة من الناس هو الوسطية، حيث يؤكد الحكام فى كل إيران وسلطنة عمان ومصر والسعودية والبلدان العربية، أن المذهب الرسمي والخطاب الديني السائد هو الوحيد بين المذاهب الذى يمتاز بالوسطية والسماحة، كما أنه المعبر الحقيقي عن كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وأن ما يخالف الخطاب الرسمى أو سدنته هم مجموعة من الخوارج أو الجهلة أو المتشددين أو المتطرفين. السؤال: هل هذا يعنى أن جميع سدنة المذهب يخدمون على سياسة الحاكم؟، هل جميعهم ينتجون فتاوى تكرس لتحصين النظام والمناصب التى يشغلونها؟، وهل جميع من يجتهدون من غير السدنة أو من خارج المؤسسات الرسمية هم بالضرورة متطرفون ومتشددون وخارجون على المذهب والملة؟، وهل جميع ما ينتج بعيدا عن السدنة والمؤسسات لا يمكن وصفه بالوسطية والتسامح؟.