فيلم آخر من الأعمال التي تخاطب العقل وتلمس القلب وتعزف سيمفونية المتعة والإبداع بداخلك.. إنه فيلم ياسمين أزرق «blue jasmine» فيلم الدراما والكوميديا السوداء، إخراج وودي آلن وبطولة كيت بلانشيت وأليك بالدوين ولويس سي كي، وبيتر سارسجارد، الذي يستحق مبدعوه جائزة الجمهور.. بلغت تكلفة إنتاج الفيلم حوالي 18 مليون دولار، بينما حقق أرباحاً تقدر ب 74 مليون دولار، ومع فيلمه الجديد «الياسمين الأزرق» يقدم لنا المخرج وودي آلن واحداً من أجمل أفلامه ومن أكثرها سوداوية، فأفلام وودي آلن ال 64 معظمها كوميدي والقليل تراجيدي، ولكن في «الياسمين الأزرق» ثمة خلطة سحرية تمزج بين الاثنين بميزان الذهب. إنها توليفة إنسانية شديدة الحساسية عن قصة امرأة تخلت عن زوجها وثروته لتبدأ حياة مختلفة بالقرب من أختها في سان فرانسيسكو، ولكنها تحاول بكل قوتها المحافظة علي أحاسيسها كامرأة ثرية، بل وتبذل الكثير للعودة لتلك الطبقة المخملية وهذا ما يجعلها تقترب من الجنون والحزن الكبير، أما «آلن» البالغ من العمر 77 عاماً فهو عاشق لأصباغ المثلين بألوان من الإبداع خاص به، وفي «الياسمين الأزرق» ينجح في ذلك مع كيت بلانشيت التي شدت الانتباه إليها دائماً بداية من دورها الملكة إليزابيث الأولي في فيلم «إليزابيث» 1998، حيث ربحت جائزة الأكاديمية البريطانية لفنون الفيلم والتليفزيون وجائزة الجولدن جلوب وأول ترشيح لها لأوسكار كأفضل ممثلة، جسدت «كيت» دور الآلف «جلادريل» في ثلاثية سيد الخواتم من 2001 إلي 2003، جسدت كيت بلانشيت في 2004 دور كاثرين هيبورن في «الطيار» للمخرج مارتن سكورسيزي، الذي جلب لها عدة جوائز، منها جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة ثانوية، أعمال «كيت» الأخري المشهورة تشمل «بابل» 2006 وإنديانا جونز و«مملكة الجمجمة الكريستالية» 2008، و«حالة بنجامين بوتون الغريبة» 2008، وأخيراً «ياسمين أزرق» وبسببه تعيش كيت بلانشيت حالة من الترقب بعد نجاحها في انتظار جوائز الأوسكار كأفضل ممثلة هذا العام. والفيلم مأخوذ عن مسرحية شهيرة للكاتب الأمريكي تينيسي ويليامز «عربة اسمها الرغبة» وتلعب فيه بلانشيت دور ياسمين الزوجة المرفهة في مجتمع نيويورك هو معالجة سينمائية جديدة للنص المسرحي الفائز بجائزة بوليتزر الذي قدم في السينما من قبل وكتب السيناريو له تينيسي ويليامز وأوسكار سول وأخرجه إيليا كازان «الذي كان هو ذاته المخرج المسرحي لهذا النص عندما عرض علي مسارح برودواي» قام ببطولة الفيلم مارلون براندو وكيم هنتر وكارل مالدن، وهم نفس الممثلين الذين قاموا ببطولة المسرحية علي مسارح برودواي، وأعاد في الفيلم تجسيد نفس أدوارهم التي لعبوها علي المسرح، أما جيسيكا تاندي التي لعبت دور البطلة فقد حلت محلها فيفيان لي، التي كانت هي الأخري لعبت نفس الدور علي مسارح لندن، وحصل أبطال الفيلم «حينذاك علي ثلاث من أصل أربع جوائز أوسكار التي تمنح في فئة التمثيل» إذ حازت فيفيان علي أوسكار أفضل ممثلة وحصل كارل مالدن علي أوسكار أفضل ممثل مساعد، وحصلت كيم هنتر علي أوسكار أفضل ممثلة مساعدة، وفي المعالجة الجديدة أنت تشير بحرفية إلي أن الاضطراب النفسي يحدث في آونة كثيرة لأن خارجنا مختلف تماماً عن داخلنا، فأنت قد تكذب علي الجميع ولكن من المستحيل الكذب علي نفسك!.. وعندما يستمر الصراع بين الداخل والخارج تكون تلك السلسلة المتواصلة من القلق والكوابيس والانهيار العصبي.. بالطبع هناك مساحة من التحمل النفسي للإنسان لتحمل صدمات الدنيا قبل أن يفيض به الكيل ويخرج في الشارع ويصرخ هذا ما تقوله بلانشيت أو جاسمين في الفيلم.. وفي الواقع أن من قرأ المسرحية وشاهد المعالجة السينمائية لودي آلن سيجد أن جاسمين مختلفة كثيراً عن بلاش دوبوا في مسرحية الكاتب الأمريكي الشهير عكس فيفيان لي في نسخة إيليا كازان، شخصية بلانش أكثر حدة تملك قدراً أكبر من العنف الداخلي ربما لأن الفيلم الأول إنتاج 1955 ونحن الآن في فيلم إنتاج 2013، حيث أصبح العالم أكثر جنوناً وعنفاً وهذا يحسب بالطبع للمخرج الذي يعرف كيفية الاستفادة من نص أدبي وتطويعه للحياة الآن، بالإضافة إلي أن النص الأصلي يقترب بشدة من الصراع بين الأختين وتكاد تكون نقطة الارتكاز والانطلاق للأحداث ولكن في فيلم «الياسمين الأزرق» أنت أمام أطروحة بنكهة وودي آلن العاشق لفكرة العدمية، التي نراها في أفلامه، فالتركيز علي حالة الضياع التي تعيشها البطلة التي لعبتها باقتدار كيت بلانشيت في صياغة نسائية مثيرة ليس فقط للاهتمام ولكن للتفكير في كينونة المرأة القابلة لخيانة زوجها والموافقة عليها ضمنياً، برفض كل الحقائق التي تشير إلي تلك الخيانة طالما هي مازالت الزوجة الحاصلة علي كل الحقوق المادية والأدبية، ولكن عندما يعترف الزوج بحب أخري والتفكير في الطلاق يبدأ الانهيار، لأنها واجهت الحقيقة ثلاثية الأبعاد من كل اتجاه ولعل تركيز الحوار علي أن حالة الهلوسة بين الحين والآخر من البطلة يكون بذكرها تلك المرأة التي أجبرتها علي الاستيقاظ من سبات كذبتها الكبري كان في غاية الإتقان، والفهم لأبعاد النفس البشرية، وبذلك تخلص وودي آلن من أسلوبه السابق في أفلامه التي تكون الشخصيات النسائية رد فعل لتصرفات وانفعالات الرجل وليس الفعل نفسه، كما في الياسمين الأزرق حيث البطلة هي المسئولة عن كل ما حدث في حياتها. وبذلك نري «الياسمين الأزرق» حالة مزدوجة من العشق للحياة والرغبة في العدمية، وفي الواقع أنه منحني فني جديد للمخرج الذي اعتدنا أن ترتكز موضوعات أفلامه بعمق علي الأدب والجنس والفلسفة وعلم النفس والهوية اليهودية وتاريخ السينما. وتعد مدينة نيويورك مسرحاً لأغلب أعماله وتيمة أساسية لها، وهو ما حدث في فيلمه الأخير، عليك كما هو المعتاد مع وودي آلن أن تترك نفسك لاكتشاف أبعاد جديدة في الحياة الإنسانية وهذا ما يصف به أفلامه في مقابلة له مع قناة BBC بأنها «مجرد إلهاء عن هذه الحياة.. هناك أمور أصعب من الموت».. وفي الحقيقة أن أفلام وودي آلن في السنوات الأخيرة ما هي إلا رحلة من الداخل إلي الخارج، بداية من فيلم «ذكريات غبار النجوم» 1980، و«حرب وحب» و«العوالم الداخلية» و«أيلول» و«امرأة أخري» و«ماتش بوينت» وفيلمه الرائع بالنسبة لي «رحلة إلي روما» حيث يطرح روما التي لا تعرف القوانين التي تعيش فيها بأحاسيسك بعيداً عن كل ما هو معتاد مدينة تجعلك لا تصبغ ذاتك بمساحيق إرضاء الناس والعزف علي أوتار ما يريده البعض، فتبدو حياتك سيمفونية نشاز بعيدة عنك تماماً، وآلن ينقلك برؤيته الخاصة لتري مدينة تجعلك عندما تشرع في مشاهدة الفيلم عليك تحضير نفسك لمتابعة لوحة بها عمق إبداعات هنري ماتيس وجنون وانطلاق ريشة بيكاسو، أما في آخر أعماله «الياسمين الأزرق» فأنت أمام لعنة سيزيف رسمتها باقتدار امرأة تصر علي المستحيل، لتكون المحصلة فيلماً مبهراً برائحة الياسمين بجميع أنواعه 200 نوع وليس الأزرق فقط.