الاختلاف والتناقض هو السمة الوحيدة الظاهرة في حياتنا وحياة كل المجتمعات والدول حتي مع فارق مستوياتها، فهناك الغني والفقير والجاهل والمتعلم والصحيح والمريض وهكذا حتي نصل للاختلاف في الديانة وحتي الديانة الواحدة نجد فيها اختلافا في العقيدة من شخص لآخر.. وفي ظل هذا التناقض والاختلاف والتضاد في كل شيء أيهما تختار أن تعيش «ذيل أسد» أن «وجه قطة»، وما هي الظروف التي تجبرك أن تكون هذا أو ذاك، هذا الطرح ربما هو كان الأقرب الي وجداني وأنا أشاهد فيلما خرج من رحم ما يسمي بتيار السينما المستقلة وهو فيلم «لا مؤاخذة»، وأيا كان اختلافنا حول مسمي السينما المستقلة أو المختلفة وما تحمله من أفكار مختلفة ومسميات أيضا لكنها بالتأكيد استقلت عن مشهيات السينما التجارية أيا كان خطها الفني كوميدي.. رومانسي - أكشن، و«لا مؤاخذة» فيلم يحمل تجربة معقولة ربما من حيث الإخراج والتمثيل، وهو يقدم رؤية مختلفة وعودة لبطولة الأطفال خاصة أننا لم نر هذا النموذج «الطفل» أحمد داش، الذي يكاد يكون هو الذي تحمل عبء نجومية الفيلم رغم حالة الجدل التي أثارها ما بين مختلف ومتفق مع المضمون الذي قدمه مخرج ومؤلف الفيلم عمرو سلامة. «لا مؤاخذة» فيلم كما أشرنا جيد إخراجيا لكن شراهة مؤلفه ومخرجه عمرو سلامة سعيا وراء محاولات الاختلاف جعلت الفكرة تتشعب منه وتتنافر مع خطوطها الدرامية والمضمون الذي كان يريد توصيله وترك المشاهد في حيرة، فهو يقدم طرحا جديدا ومن زاوية مختلفة للتمييز الديني في مصر وصعد به من بداية السلم خاصة أن الاختلاف والتمييز بين المسلم والمسيحي في مصر قضية قديمة وغالبا ما تأخذ أبعادا خطيرة تصل لحد الاشتباك والقتل والحرق وبدايتها إما لخلافات الجيرة أو الاختلاف علي موقع مسجد وكنيسة ونادرا ما كنا نجد سببها «لعب العيال» لكن عمرو سلامة في «لا مؤاخذة» شرح القضية واختصرها في مهدها في المدارس وكانت المدرسة في رأي مؤلف ومخرج الفيلم هي «اللغم» الأول لبراثن التميز الديني، وإن كان هذا نادرا ما يحدث، وفجأة وجدنا المخرج يدخل بنا في قضية أخري تصلح بمفردها فيلما لوحده بخلاف الفكرة الرئيسية التي أراد أن يلعب عليها وهي فكرة التمييز الديني ووجد المخرج نفسه منساقا وراء «قماشة» متينة بها مساحة للجذب، وهي الاختلاف بين مستوي التعليم الخاص والعام في مصر من خلال الطفل «هاني» - أحمد داش - الذي كان يعيش في مستوي اجتماعي فوق المتوسط ويدرس في مدرسة «محترمة» لكن والده «هاني عادل» يموت فجأة ويطمع أعمامه في ميراثه فتضطر والدته «كندة علوش» أمام انهيار الحالة الاقتصادية لها وأمام حرارة مصروفات مدرسة ابنها أن تبحث له عن مدرسة حكومية ليعيش الطفل «هاني» وسط نماذج طفولية مختلفة ما بين البلطجة والتشرد والضياع وأسهب المخرج في عقد المقارنة بين التعليم الخاص الذي هو في الأساس متهم بالتسيب والفساد وبين التعليم الحكومي بمشاكله، ولكي يخفف حدة هذه المقارنة وسرد واقع ربما أصبح أخف «وطأة» مما يرصده المخرج لجأ الي السياق الكوميدي الساخر، واعتمد في هذا الفاصل علي موهبة الأطفال الذين تحملوا عبء مرور الفيلم لقلب الجمهور وأقحم في هذا الفاصل عملية التميز الديني وظهر الطفل خائفا ومترددا من إظهار ديانته وانساق المخرج وراء فكرة الاختلاف وإثارة الجدل في إظهار الطفل «هاني» في صورة المضطهد رغم تفوقه في الإنشاد الديني وتلاوة القرآن لدرجة أنه جعله يضطر لأن يصلي حتي لا يضطهده زملاؤه في الفصل، وهي بصراحة أفكار غير موفقة وكان يمكن معالجتها في السيناريو الذي تفككت خطوطه الدرامية في الفيلم وظهر كأنه يقدم فيلما تسجيليا عن سوء الوضع التعليمي في مصر والخاص بمصروفاته المبالغ فيها والعام بهمومه وكثافة فصوله وبلطجة تلاميذه وظهر الفيلم كأنه «سكتشات» ولكن المخرج لم يكتف بمحاولات الاختلاف وإثارة الجدل لكي يستقطب الأضواء حول فيلمه لكنه جنح الي قضية مهمة وكانت هذا «الاسكتش» الثالث في الفيلم بعد التميز الديني وحال المدارس الحكومية.. وقدم طرحا خطيرا وهو المثل الذي رصدنا كيف تختار أن تعيش في واقع مليء بالتناقضات «وجه قطة» أي تستطيع «تخربش» وتدافع عن نفسك لكن في النهاية ستكون «قطة» أم «ذيل أسد» بمعني أنك في النهاية تحتمي بوجه أسد.. وذلك كما يرصد الفيلم محاولات الطفل هاني للتأقلم مع زملائه الجدد في المدرسة الحكومية في الحي الشعبي بشتي الطرق لكن يواجه من الإهانات والاستهتار بحجمه وشخصه الكثير وديانته هذا الفاصل هو الأقرب للواقع فيضطر هاني لأن يتخلي عن «وجه القطة» ويقبل أن يكون «ذيل أسد» ويتعلم فنون الكاراتيه ويتحدي زميله في الفصل القوي البنيان الذي كان يضطهده دينيا وبدنيا ويضربه وهنا يظهر المخرج التحول في علاقة الطفل بزملائه في الفصل الذين يبدأون في احترامه وهنا يظهر مقصد الفيلم وهو الترسيخ لمبدأ القوة في الحياة ولا مكان للضعيف فيها وبدلا من الاعتماد علي أدوات أكثر واقعية فمثلا كان من الممكن أن يقدم ناظر المدرسة في دور أكثر فاعلية ليعطي إشارة بأن هناك أملا في استقامة العدالة علي أرض الواقع أو تغير سلوك الأطفال بالمدرسة تجاه زميلهم «هاني المسيحي» لموهبته وأخلاقه وليس قوته.. هكذا لعب عمرو سلامة علي عنصر الاختلاف والإثارة من خلال أفكار تروج لمبدأ فرض سيادة القوة بدلا من مبدأ سيادة الأخلاق والاحترام وهذا يعكس أن المخرج نفسه ليس عنده استعداد للتفاؤل بمستقبل البلد أصلا ربما كان هذا طبيعيا قبل الثورة لكن كان عليه أن يفتح باب الأمل حتي في نهاية الفيلم الذي تركاه مفتوحة لكل الاحتمالات بمعني أن الصراع بين الديانة سيظل مستمرا وصراع القوة سيظل قائما، الفكرة جيدة لو اكتفي عمرو سلامة بفكرة أوفكرتين في الفيلم لكن هي شهوة الاختلاف وفي السينما المصرية إن أردت أن تكون مختلفا عليك أن تلعب علي ثلاث مفردات هي: الدين والجنس والعري، وعمرو سلامة فضل أن يختلف في منطقة الدين وكأنه أراد أن يذهب بقدميه للرقابة ليقول لها سأظل مختلفا حتي يصنع معركة وهمية مع رقابة لا تصلح لهذا الواقع أصلا وكان عليها أن تتركه في أول مرة لأنه يجب أن نعطي بعض الثقة في مجتمعنا الذي يطهر نفسه بنفسه وهو أقدر من الرقابة علي فهم كل الخطوط ويقبل الجيد وينأي عن الرديء.. عموما فيلم «لا مؤاخذة» فكرة معقولة في أكثر من مضمون كل هدف يصلح لفيلم بمفرده.. ونجح المخرج عمرو سلامة في أن يكون مخرجا متميزا أو لحقق فيلمه «لا مؤاخذة» قاعدة أكبر مما هي فيه لو اكتفي بالإخراج وشارك علي الأقل في السيناريو وإن كان الفيلم تخطي حاجز ال2 مليون جنيه إيرادات فهي بفضل الأطفال الذين تحملوا عبء نجاح الفيلم خاصة أن بطله «هاني عادل» مات في المشهد الثالث وكان من الممكن استغلال جزء من موهبته وأداء كندة علوش جاء باهتا ومتواضعا عن باقي أعمالها، حتي دور المدرس «أبومطوة» كان «أوڤر» وإن كان موجودا في الواقع ودور الناظر كان متميزا مع دور مدرسة العلوم.. كان من الممكن أن يحقق الفيلم نجاحا جماهيريا أكثر لو اكتفي المخرج بتناول أزمة التعليم في مصر بشكل ساخر خاصة أنه وفق في اختيار التلاميذ ومساحة الكوميديا. وأخيرا يمكن أن نقول إن فيلم «لا مؤاخذة» لمس جزءا من الواقع لكنه ليس الوحيد الذي كشف عن نار الفتنة والتميز الديني في مصر، خاصة أن مساحة الاختلاف والاتفاق أصبحت علي الملأ في مصر ولم يعد هناك ما يسمي قضية شائكة في الفن وتخطت حاجز شباك السينما ووصلت معالجتها في الدراما، وعلي كل حال هو فيلم معقول لكن شهوة الاختلاف وطمع المخرج في حشر أكثر من فكرة قللت كثيرا من رصيده، ويحسب له تقديم وجوه جديدة في بطولة الأطفال التي كانت غائبة. ديكور المدارس والملابس وماكيير تلاميذ المدرسة نجح المخرج وفريق فيلمه في تقديمها بشكل جيد وقريب للواقع مع الموسيقي التصويرية وتمكن المخرج من تقديم صورة جيدة نجح فيها كمخرج أكثر منه مؤلفا.