ليس من شك أن تبايناً فى المصالح، بات واضحاً أثره فى مجمل العلاقات المصرية الأمريكية، غير أن تجاهل جملة من المصالح المشتركة بين مصر والولاياتالمتحدة يُعد أمراً لا يمكن إقراره، من هنا فإن إدارة أوباما، رغم مواقفها المترددة تجاه الثلاثين من يونية، لا تملك إلا التمسك بما انتهجته الإدارات الأمريكية المتعاقبة فى مواجهة مصر، حيث لا سبيل إلى إخراج مصر من دائرة اهتمام الأمن القومى الأمريكى. وفى هذا الإطار تجدر الإشارة إلى عدم صحة ما يروج له بعض مراكز الفكر الأمريكية عن تراجع أهمية مصر على الأجندة الأمريكية، وخفوت نجم المنطقة العربية عامة، والخليج خاصة، فى سماء المصالح الأمريكية، استناداً إلى تنامى الاحتياطى الأمريكى من النفط، وتهاوى التهديدات الموجهة إلى إسرائيل. من جهة أخرى، فإن الدولة الديمقراطية الحديثة التى نسعى إلى بنائها، وإرساء قواعدها، لا يمكنها تعاطى الشأن الدولى دون توفر رؤية شاملة تستطلع كافة مقومات نجاحها، واندماجها كعضو فاعل فى المنظومة الدولية، دون احتجازها فى إطار يحد كثيراً من قدرتها على السير قدماً نحو تحقيق أهداف الثورة. فتنوعاً فى الخيارات المتاحة أمام السياسة الخارجية المصرية، يُعد أمراً لا بديل عنه إذا ما انتهجت الدولة المصرية مساراً يرتكز على إعلاء أهمية العمل وفق منظومة القيم الحاكمة للعلاقات الدولية المعاصرة، وهى بالفعل قيم لا يصح الاصطدام بها تحت مزاعم واهية، لا تلتقى وجوهر المبادئ السامية التى اعتلت مسيرة الثورة المصرية المجيدة فى الخامس والعشرين من يناير، واستردتها الملايين فى الثلاثين من يونية. فنظرة أحادية تحكم رؤيتنا الخارجية، لا تكفى لرصد ومواجهة التحديات والمخاطر المحيطة بالوطن فى مرحلتنا الدقيقة الراهنة، كذلك فإن الرغبة فى مجابهة السياسات الأمريكية المعادية لشعوب المنطقة، لا توفر لنا مدخلاً كافياً لدفع جهود التعاون مع أطراف دولية فاعلة، مثل روسيا، قدر ما ينبغى أن يتأسس هذا التعاون وفق المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. اعتبارات كثيرة تقودنا نحو تناول زيارة وزير الدفاع المشير السيسى ووزير الخارجية نبيل فهمى إلى روسيا، بوصفها «خطوة» فى الطريق الصحيح، ينبغى أن تتلوها خطوات كثيرة، على المستويين الداخلى والخارجي، وباتجاهات متعددة، تتيح للدولة توازناً على الساحة الدولية، تؤكد به استقلالية إرادتها، متى نجحت فى تأسيس شبكة من العلاقات الاستراتيجية تربطها بالقوى الإقليمية والدولية. وبالإضافة إلى ملف سد النهضة الإثيوبى، وكونه قضية وجود، تستدعى بالضرورة حضوراً دولياً قوياً للدولة المصرية، فإن جملة من الملفات الدولية تنتظر تبعات التقارب المصرى الروسي، وهو ما يلقى بمسئوليات جسام على السياسة الخارجية المصرية، فى سبيل تأكيد سيادة القرار المصري، وانحيازه لمبادئ الشرعية الدولية، وهو أمر لا يمكن إنجازه على نحو يدعم المصالح الوطنية دون انفتاح السياسة الخارجية المصرية على كافة الأطراف الفاعلة فى تلك الملفات التى باتت تمثل أولويات أجندة الجهود الدولية، ولعل من أبرزها الأزمة السورية، والنووى الإيراني، فضلاً عن القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية فى منظومة الأمن القومى العربي، خاصة وقد تصاعدت تداعياتها على الأمن القومى المصرى. ورغم أن السياسة الخارجية صناعة داخلية بالأساس، فإن الاستعانة بتقوية العلاقات المصرية الروسية كسبيل لترويج فكرة العودة إلى حقبة زمنية بعينها، أو على سبيل إحلال روسيا محل الولاياتالمتحدة فى أولويات أجندة السياسة الخارجية المصرية، هو أمر ينطوى على تبسيط مُخل لواقع الأمور؛ فدولة فى حجم وقدر مصر لا ينبغى أن تؤسس لعلاقاتها الدولية وفق منطق المكائد، كذلك فإن السياسة الخارجية تتجاوز كثيراً مفهوم «رد الفعل»، مثلما لا ينبغى أن ننتظر من روسيا أن تبنى استراتيجياتها مرتكزة على متغيرات طارئة. ومن جهة أخرى، فإن نجاحنا فى بناء شبكة من العلاقات الاستراتيجية مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، يظل رهناً بما نحققه على صعيد دعم القوة الشاملة للدولة، وهو ما يمثل حافزاً قوياً للإسراع بإعادة البناء الداخلي، وفق أسس متينة من شأنها دفع كافة الجهود الوطنية صوب أداء مسئولياتها على نحو يقلل من احتمالات نجاح المساعى الرامية إلى إحداث انقطاع فى المسيرة الوطنية. ومع التسليم بحتمية استقلالية القرار المصري، فإن الزيارة الأخيرة لروسيا، لا تبرر على الإطلاق بدء حملات تدفع صوب الدخول فى مواجهات مع الولاياتالمتحدة، وغيرها من القوى الدولية الفاعلية، مثل الاتحاد الأوروبى، بل إن قواعد العلاقات الدولية تؤكد أن انتهاج هذا السبيل من شأنه إضعاف الموقف المصرى فيما تسعى إليه من علاقات استراتيجية مع روسيا وغيرها من القوى الإقليمية والدولية، ذلك أن نجاح الدولة الديمقراطية الحديثة التى نبتغيها، إنما يتجسد فى وفرة الخيارات المتاحة أمامها للنفاذ إلى تحقيق مصالحها على الساحة الدولية؛ ومن ثم ينبغى أن تخرج السياسة الخارجية من دائرة المزايدات السياسية الدائرة رحاها فى المشهد السياسى.