رائحة الجنوب تفوح من تلك »الجيم« التي يصر علي نطقها »دال« .. قامته القصيرة تتوه بجسده داخل جلبابه الفضفاض و "شاله" رقيق الملمس يعتمره ليخبئ تحته ذكريات ابيضت من ألمها لا من هرمها. أتي مع من أتوا في موسم الهجرة إلي ميدان التحرير تاركاً قريته الهمامية بمركز البداري بمحافظة أسيوط ليعلن عصيان الفقر علي نظام دهسه هو وأبناءه العشرة تحت قطار تنمية الصعيد الذي توقف عمداً فوق قضبان الفساد. ثلاثة عشر يوماً قضاها محمد محمود عليوة في الميدان ، عايش خلالها معني الوطن حتي"تمحي مبارك" بالميم لا بالنون كما ينطقها الرجل الخمسيني الذي يري الكفاف في شهادة الابتدائية الحاصل عليها "فالحياة معلمه الأكبر". "الناس في بلادي" هكذا يطلق علي أهل الصعيد ..ولكن ناسه غير أناس صلاح عبد الصبور في قصيدته الشهيرة ، فناس عم محمد الذي يتحدث عنهم كما لو كانوا يحيون في بلد آخر غير مصر قد مضغهم الفقر ففتتهم" لو عايزين تشوفوا الفقر وتسلموا عليه تعالوا بلادنا... إحنا بنخاف نمر علي عتبة الجزار بنشوف اللحمة من بعيد لبعيد". منطقه الذي حمله مع قسمات وجهه المرتعشة إلي الميدان قد يبدو غريباً علي رجل عف أبناؤه عن المشاركة في الثورة ، فالرجل الخمسيني الذي يعمل بناء باليومية لم يكن لديه أي غضاضة في استشهاد سبعين مليون مصري مقابل أن يعيش العشرة ملايين الباقية في رغد الحرية ، وقد شارك بناء علي هذا المنطق في الثورة "أنا كنت جاي عايز الموت ..... علي الأقل هموت شهيد وأرتاح وأريح عيالي مني". في تلك الليلة حالكة الظلمة استشهد بين يديه شاب عشريني بعد أن طعنه أحد البلطجية بمطواة في رقبته " عز علي موته وهو ظمآن ولم يتسن لي الإتيان له بماء في تلك الليلة الصعبة فاستشهد ظمأن للمياه وللحرية"... ليلة موقعة الجمل كانت أشد ليالي الثورة علي عم محمد ومن معه ، فالثورة تضيع وعليهم إما الدفاع عنها أو زيارتها في مقابر الصدقة بعد تعذيبها في المعتقلات.. عم محمد الذي اشتهر بفيديو "المواطن المصري" علي صفحات الموقع الاجتماعي الفيس بوك والذي سجله له أحد الشباب خلال الثورة وأضحي حديث الفضائيات ، تحول إلي رمز للثورة في محافظته فغرباء يأتون للتعرف عليه و التقاط صور له بل وتمادي آخرون لا يعرفهم في طبع الفيديو الذي يُظهر الرجل الصعيدي ساخطاً ثائرا ضد الظلم، علي اسطوانات مدمجة "سي دي" وبيعها " الفيديو وصل السعودية، ناس من اللي بيسافروا يشتغلوا هناك قالولي إنه وصلهم وشافوني" بفرحة المنتصر تحدث. يجل محمد ذلك الفيديو الشاهد الأقوي من وجهة نظره علي مشاركته في الثورة ويكاد يعرضه علي كل من يلقاه في طريقه ....لقد شارك في ذلك الحدث الذي أزال الطغيان وليس كهؤلاء الذين نظروا للثورة من فوق الأرائك المكيفة " نفسي أحط صوابعي في عنين الناس اللي بتطلع في التليفزيون وتقول إنهم الثورة، إنهم لم يشموا رائحة الثورة ". رحل الرجل الجنوبي إلي بلاده بعد رحيل الطاغية راسماً في خياله عالماً جديداً ينتظر عائلته الكبيرة ، لم يحلم بسكن خاص أو أرض أو رصيد في بنك فقط حلم ب"التموين"!. "بقالي عشرين سنة مابخدش تموين من الدولة " فمحمد كان يعمل في بلدة أخري عندما كان عليه تجديد بطاقة التموين منذ عشرين عاماً ولجهل زوجته فإنها لم تجددها ليعود الزوج ويدخل في دائرة مفرغة بين الجهات المختصة والمسئولين" كل الشكاوي اللي قدمتها اترمت في الزبالة " . تخيل أن الثورة ستعيد له تموينه إلا أن شيئاً من تخيلاته لم يحدث ويبرر واقعه قائلاً " الفساد والكوسة لسه موجودين، رجال النظام السابق لسه في مكانهم" ويصف الوضع الحالي" الثورة دلوقتي زي الطبيخ اللي شلوه من علي النار قبل مايستوي " ويتساءل "ثورة ايه ومبارك وعياله بياكلوا أحسن مني وهم في السجن؟".. الدستور أولاً ..الانتخابات أولاً مهاترات قوي سياسية لا تشغل الرجل الجنوبي فالتموين أولاً هو مايريده ويري أن مراده سيتحقق بسرعة انتخاب رئيس للبلاد " المياه كل ما تطول تعفن" هكذا يصف حال مصر في حال انتظارها الرئيس وانتظاره التموين.