خارج دائرة الضوء الإعلامي، ظل الأنبا يوحنا قلتة النائب البطريركي للكنيسة الكاثوليكية منزويا منذ 30 يونية، العقلاء لا يتحدثون في لحظات الفوران إلا عند الحاجة، وتصريحات الرجل كانت تخرج تزامناً مع ضبابية الرؤية إزاء مشهد سياسي بالغ التعقيد، واعتداءات طائفية بلغت ذروتها في أعقاب فض اعتصامي «رابعة العدوية والنهضة». يحتفظ «الأنبا يوحنا» بخصوصية التمازج الثقافي «الإسلامي - المسيحي» الذي ينبثق عن «رسالة دكتوراة في الثقافة الإسلامية» بالتوازي مع تعليمه اللاهوتي المسيحي، وبين الثقافتين تتبلور مصرية الرجل «أستاذ الحضارة العربية» آخذة في مسارها حكمة الجاحظ: «وكيلي عند الله..عقلي»، رافضاً تقليدية الفكر المعاصر. كان النائب البطريركي للكنيسة الكاثوليكية شاهداً على عصر «الإخوان» خلال عضويته في «الجمعية التأسيسية للدستور»، ولقاءاته مع بعض رموز الجماعة إبان إعداد الأزهر وثيقة ل«جمع فرقاء السياسة»، وتتسق شهادة الأنبا يوحنا قلتة مع نفور عام من سياسة الرئيس المعزول الذي تتم محاكمته حاليا. وبين ثنايا الإحباط التي تصيب قطاعا عريضا من المصريين إزاء تخبط أوضاع الوطن على مستوييه السياسي والاقتصادي، ينثر أستاذ الحضارة العربية بذور الأمل، مؤكدا أن مصر ستعبر محنتها بعودة سيناء إلى أحضان الوطن. ويري الأنبا يوحنا قلتة أن الرئيس المعزول محمد مرسي لم يستمع لنصائح أحد، لافتا إلى رسالة بعثها لقيادات الجماعة قبيل 30يونيو حملت عنوان «اللهم إني قد بلغت.. اللهم فاشهد» تضمنت مآسي المرحلة في مقدمتها إصراره على بقاء هشام قنديل رئيس الوزراء السابق رغم الغضب الشعبي العارم من آدائه، بينما لم يتجاوب أحد - على حد قوله. ويستعرض النائب البطريركي للكنيسة الكاثوليكية خلال حواره ل«الوفد» المشهد السياسي الحالي في قراءة متأنية، معرجا على تجربته في الجمعية التأسيسية وكواليس صياغة «مواد الهوية» وقتئذ، آخذاً في الاعتبار حادث الوراق وتداعياته، طارحاً في الوقت ذاته رؤيته في دعوات «المصالحة الوطنية» وإلى الحوار.. دعنا نبدأ من حيث ينتهي المسار السياسي الحالي.. كيف ترى مشهد محاكمة الرئيس المعزول «محمد مرسي» وكيف ترى مطلب العفو عنه؟ - لماذا لا يحاكم؟ لا أحد فوق القانون.. وعندما عزل «عمر بن الخطاب»، خالد بن الوليد عاد إلى صفوف الجيش في هدوء. سقوط الإخوان برأيك لماذا فشلت تجربة الإخوان في عام.. رغم ضجيج النهضة وشعارات الإصلاح؟ - في قراءة للتاريخ الإسلامي، يتبين أن سبب سقوط الإخوان بهذه السرعة هو أن فكرهم ضد طبيعة الشعب المصري الوسطي، إلى جانب سباحة الجماعة ضد تيار الهوية المصرية، أدى ذلك إلى تنامي شعور لدى المصريين بأنهم سيتحولون إلى عبيد في دولة الخلافة، ثم إن الإخوان لم يكونوا مهيئين للحكم، ولقد قضيت أسبوعا بين النوبة وأسوان إبان عملي بالجمعية التأسيسية ضمن وفد ترأسه محمد البلتاجي ورأينا جميعا كيف كان البؤس والشقاء لدى مواطنين لا يحصلون على أبسط حقوقهم، وكان من المفترض أن ينتبهوا إلى أن معالجة هذه المشاكل هي أولى خطوات التقدم، لكنهم آثروا الاعتماد على أهل الثقة الذين يشكلون دائرة ضيقة، وانساقوا خلف الاستعلاء والاستحواذ رغم تحذيرات متعاقبة من «أخونة الدولة». من وجهة نظرك - من أسقط من.. الإخوان أسقطوا مرسي.. أم العكس؟ - «مرسي» سبب فشل الإخوان.. وقد سألني د. محمد البلتاجي خلال لقاء بالأزهر الشريف قبيل الانتخابات الرئاسية عن رأيي في اختيار مرسي مرشحاً فقلت له «هذه شخصية ضعيفة». إذاً.. كيف تبينت هذا الضعف بعد توليه الحكم.. وكيف كانت لقاءاتك معه خلال فترة رئاسته؟ - التقيت مرسي 3 مرات.. وخرجت بانطباع أن الرجل لا يملك خبرة الحكم، وطرحت عليه سؤالا أمام الجمع في حضور فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر وقلت له «سيدي الرئيس ما مصير سيناء؟».. فرد قائلا: «سيناء في الحفظ والصون»، وكان الرئيس السابق مستمعا جيداً لكنه لا يملك إلا رؤية التنظيم الدولي. يرفض الإخوان كل مبادرات التفاوض.. هل تتفق مع الرأي القائل بأن التظاهرات المستمرة تستهدف رفع سقف المطالب خلال العودة للمفاوضات؟ - لن تكون هناك مفاوضات على الإطلاق مع المجرمين والإرهابيين الذين يدمرون البلد، وأنا اتساءل: «هل هناك مصري يسعى لتدمير الأزهر؟»، أناشدهم الكف عن هذا لأنه لن يؤدي إلا إلى مزيد من رفض الشارع لهم. ثورة شعبية يعني ذلك أنك مع دعوة «المصالحة»؟ - أؤيد المصالحة بشرط معاقبة المجرمين والمتهمين في قضايا جنائية، وإذا أرادوا أن يؤسسوا حزبا سياسيا فلابد ألا يكون له منحى ديني. لكن الجماعة تشكك في 30 يونية وتصوره عبر ما يسمى ب«تحالف دعم الشرعية» على أنه «انقلاب عسكري»؟ - 30 يونية ثورة شعبية أنقذت الأمة العربية ومصر تحديدا من السقوط في ظلام العصور الوسطى. لكن الموقف الدولي يتأرجح يمينا ويسارا في الاعتراف بشرعية هذه الثورة.. كيف تقيم ذلك؟ - الموقف الدولي تحكمه المصالح فقط. ألمحت إلى خطابات د. يوسف القرضاوي التي يطالب فيها بإسقاط النظام الحالي.. كيف تقرأ تلك الخطابات؟ - القرضاوي يمر بمرحلة خريف العقل.. وكان عليه أن يبعث برسائل وطنية تحافظ على مصر انطلاقا من رئاسته لهيئة علماء المسلمين. لكن شيئا من الإحباط أصاب قطاعا من المواطنين إزاء آداء الحكومة الحالية بما يتعارض مع مطلب العدالة الاجتماعية.. كيف ترى ذلك؟ - أولاً.. أود أن أشيد بالملحمة البطولية التي يقوم بها الجيش المصري في سيناء، واعتبرها بداية ل«تاريخ مصر»، لأن حرية مصر منقوصة بدونها، وأثمن تضحيات الجيش والشرطة هناك، وأقول لهم «قلوبنا وصلواتنا معكم»، ورغم هذا المشهد الذي يسير ببطء ويصدم بعض الناس إلا أنني أؤكد أن ثورة 30 يونية لم تكمل العام وعلينا أن نصبر، لأننا كمصريين لا نتكيف أبدا مع سفك الدماء. لكن أنصار الإخوان يستغلون سقطات الحكومة «الاقتصادية» ويعززون بها حالة الغضب الشعبي لتوسيع دائرة التظاهر.. كيف يمكنك قراءة هذا المشهد؟ - لقد بعثت برسالة للإخوان قبيل 30 يونية تحت عنوان «اللهم إني قد بلغت.. اللهم فاشهد»، وتساءلت عن إصرار الرئيس السابق على بقاء هشام قنديل كرئيس للوزراء، لكن أحداً لم يستمع، وأقول للإخوان: أنتم «نجحتم ثم فشلتم» فلماذا اليأس والعنف؟، ما رأيناه معكم يعادي طبيعة المصريين، وفكرة الخلافة والتنظيم تحتاج إلى إعادة نظر، والخلافة فكرة صهيونية - أمريكية، لأنها لا تأتي بطمس معالم الأوطان ولكنها تضامن وتعاون، فلنبدأ أولا بوحدة عربية في الاقتصاد والسياسة ثم تأتي الخلافة إذا وافقت طبيعة الشعوب، وما يجري من الإخوان حاليا لا يرضي الله ورسوله، وستنجح الثورة 100% لأن إرادة الشعوب لا تقهر. نعود إلى الجدل المثار حول تعديل المادة الثالثة من الدستور المعنية ب«حق المسيحيين واليهود في الاحتكام لشرائعهم».. كيف كان مسارها بلجنة الخمسين وما رأيك في تعديلها؟ - هذا عبث في عبث.. وخلال فترة عضويتي بالجمعية التأسيسية للدستور رفضت صياغة المادة الثالثة وقلت لهم إن القرآن أعطاني حق الإيمان والكفر، وأؤيد تعديلها، لأنه من المفترض ألا نخاف من الفرق الأخرى وأنا ضد أي قيود على الإنسان وعقل الإنسان، وهذا دستور ثورة وينبغي أن يعتنق الفرد ما يشاء. وما رأيك في إصرار حزب النور على المادة 219 التي يعتبرها مادة «الهوية»؟ - حزب النور يسعى لكسب مقعد ومكان، وأن يكون جسرا في المستقبل بين الإخوان وبين السياسة. إذاً هل تتفق مع مطالب الأقباط ب«إقرار كوتة» تضمن تمثيلا في المجالس النيابية؟ - لا أوافق على كوتة للأقباط، والمعيار لابد أن يكون اقتناع الشعب بالشخص المرشح لمنصب نيابي، وأفضل المواجهة السياسية لأني مع إرادة الشعب بشرط نزاهة الانتخابات. بعض النشطاء الأقباط يصفون الدستور المنبثق عن لجنة الخمسين بأنه ذاته دستور الإخوان، هل يعني ذلك أن الكنائس ستحشد ب«لا»في الاستفتاء القادم؟ - الدستور مأخوذ من الدساتير القديمة، والكنائس فقدت سيطرتها على الشباب ولا حشد ب«نعم» أو ب«لا» في الاستفتاء القادم. كيف تقيم حادث «كنيسة الوراق» في ضوء مشهد العنف السائد في الشارع المصري؟ - أثق بأن حادث الوراق ليس توجها عدائيا شعبيا ضد الأقباط، لكنه ثمن ندفعه للتقدم وحرق متحف أخطر من حرق كنيسة لأن الكنيسة سوف تبنى مرة أخرى، أما تراث المتحف فلن يعود. وصف البعض تأييد بعض الرموز الكنيسة للفريق أول عبد الفتاح السيسي للرئاسة على أنه خلط بين الدين والسياسة.. إلى أي مدى تقيم ذلك؟ - هذا رأي شخصي.. والمرحلة القادمة تحتاج إلى الفريق السيسي ولو «أربع سنوات فقط»، نريد رجلا عسكريا حاكما عادلا «يلم البلد»، وتأييد السيسي يأتي لعدم وجود بديل، ومع ذلك فلن يستطيع أي رئيس قادم أن يكون ديكتاتوراً، لأنه يثق في قدرة الشعب على الثورة. إلى أين وصلت المصالحة بين الأزهر والفاتيكان؟ - حدثت المصالحة.. وهناك اجتماع بين الأزهر والفاتيكان في يناير المقبل لعودة الحوار. هل من رسائل تريد أن تبعثها.. ولمن؟ - أبعث برسالة ل«الشعب المصري» وأقول له: يا شعب مصر العظيم اثبت واصمد وتمسك بمبادئ الثورة، والتاريخ لن يعود للوراء، ونحن مستعدون للتضحية والفداء من أجل مصر.