الناس أمام شاشات التلفاز, على المقاهي والمحال والبيوت, حالة من الترقب الممزوجة بالقلق تظهر على الوجوه, الجميع يتجاذبون أطراف الحديث هل ستكون الساعات القليلة القادمة احتفالية؟ أم ستتوشح مصر بالسواد في ليلة جنائزية لطالما عشناها فى الأيام الماضية. جلست أنا وأصدقائي نشرب الليمون لما له من قدرة على تهدئة الأعصاب, لكنها كذبة, فكلما ارتشفت منه زاد توتري وانفعالي. صديقي يسير في توتر, يصل إلى النافذة ثم يعود إلى حيث كان, كل مرة، في وقت لا يزيد عن ذي قبل وبخطوات معدودة , والأخر يتمتم بما حفظ من صغار السور القرآنية التي قد يخطئ فيها أحيانا. أكثر من خمسين دقيقة لا تتفوه ألسنتنا بكلمة سوى "يارب", الكل يناجي نفسه وكأنه يجلس وحيدًا داخل الغرفة. "وبذلك يكون الفائز بمنصب رئيس جمهورية مصر العربية في الانتخابات التي جرت يومي السادس عشر, والسابع عشر من يونيو هو السيد الدكتور محمد محمد مرسي عيسى العياط". صيحة واحدة تعالت فى سماء البلاد وأخذت الألعاب النارية تنطلق في صوت تتأذى منه الآذان. ا نتفضت من على مقعدي نفضة لم أشعر بنفسي بعدها إلا فى أحضان أصدقائي وكاسات الليمون ملقاة على الأرض بعد أن تهشمت . هرولنا إلى الشوارع والعيون تذرف دموع الفرحة لتحقيق أولى خطوات الحلم, ممسكين بالأعلام, والميدان وجهتنا , توقف أحدهم فجأة، وقال لي بعد أن تسمَّرت قدماه: الباب!!! فعدت مسرعًا بعد أن أنستني الفرحة إغلاقه, ورجعت إلى الشارع بعد أن اكتظت الشوارع بالناس, فلا تكاد ترى الوجوه, فما هي إلا أعلاما ترفرف في الهواء, العربات تصدر أصواتًا وكأنها تزف عروسين ليلة زفافهما, لا صوت يعلو فوق هتاف " مصر ... مصر ..", امرأة تزغرد , وعجوز يرفع "عكازه" يلوح بعلامة الانتصار . عانيت حتى تمكنت من دخول الميدان, الأجسام تتلاحم, الأيادي تتشابك, الميدان يتراقص على أنغام الأغاني الوطنية, السعادة تغمر الوجوه. إنه حلم الثورة, وها هو يتحقق.. هذا لسان حال كل ثوري. صعدت على أحد الحواجز الحديدية على أطراف الميدان و أخذت أتأمل هذا المشهد , أمسك فى إحدى الخرسانات الحديدية بيدٍ وبالأخرى العلم الذى لم تتوقف يدي عن التمايل به . حاولت أن أخرج سجائري حتى كدت أن أنهال على وجهي وسرعان ما استعدت توازني, تركت يدي الخرسان الحديدي، واتكأت عليه بكتفي وأشعلت سيجارة بيدٍ والأخرى مازالت ممسكة بالعلم. الميدان مليء بأنماط مختلفة من البشر , فهذا شابُ في رعونة شبابه, محمول على الأعناق, أسمر البشرة وتختلج بقليل من الحمرة , طويل الشعر, ينهمر منه العرق, فمه يتحرك بقوة الهتاف, صوته فيه بحة أوشك أن ينقطع تمامًا, يرتدي كوفية يحاول أن يمسح عرقه بها من حين لأخر . هذه فتاة في العشرين من عمرها, شعرها أسود داكن يتدلى على كتفيها العاريتين, لا ترتدي ما يكفي لإخفاء مفاتن جسمها, تتحرك شفتاها مرددة الأغاني التي تجوب الميدان, تتراقص في نعومة ودلال, وبجوارها امرأة فى سن أمها, تغطي شعرها الذي يظهر منه بعض الشعيرات البيضاء, ملامحها مصرية طيبة, يتمايلان بأجسادهما مرددين اسم مصر, يبدو أن كل منهما تعرف على الأخر في الميدان. وذاك ملتحٍ, تكاد لحيته تغطي صدره يرتدي جلبابا أبيض قصير وسروالاً يغطي ما تبقى من ساقيه وعلى رأسه غطاء أبيض, كلما سقط همَّ برفعه مرة أخرى, أخذ ينظر في اتجاهي, فظننت أنه ينظر لشخص يقف بجواري على الخرسان الحديدي, وأخذ يدنو ويلتحم جسده بالأخرين, على وجهه ابتسامة مبهمة, تحمل رسالة لا يفقهها إلا هو, وأخذ يقترب تجاهي, وكلما اقترب زاد يقيني بأن هذه الرسالة خاصة بي. اقترب حتى وصل أسفل قدماي ولا زالت الابتسامة على وجهه, بادلته نفس الابتسامة, رفع يده في إشارة لي بالنزول, لم أفقه غايته, حتى خمنت أنه يريد أن يحدثني, فهممت بالنزول ولم أجد مكانًا لقدمي تحط فيها في اطمئنان, قدَّم لي يديه, يقصد مساعدتى, حتى نزلت وفي يدي سيجارتي. انقض على اليد التي تحمل السيجارة فى عنف, وأخذ يهزها مرارا, ولا زالت الابتسامة لا تفارق وجهه، وقال : أطفئ السيجارة, ألست سعيدًا بما حدث اليوم؟ اندهشت للوهلة الأولى وتغير وجهي ولم تنتظم أنفاسي, وأخذ يكرر هذه الجملة أكثر من مرة مستمرا فى الإمساك بيدى بالقوة. ولا زالت يدي ممسكة بالملعونة "سيجارتي", حتى بدأت أدرك طلبه فقلت له: سأشعل أخرى, فأصر على طلبه قائلاً "أطفئ السيجارة يا أخي .. ألست سعيدًا بما حدث". دارت بعقلي معركة للحظات بين بعض الأسئلة والأجوبة, إن لم أكن سعيدا بما حدث اليوم, ما الذي جاء بي إلى هنا ؟ ولماذا كلف هذا الرجل نفسه هذا العناء ووصل لي يطلب هذا الطلب التافه؟ وماذا لو أطفأتها , أبهذا توقفت عن التدخين ؟ ولماذا لم يبدأ بالحوار أولاً ؟ واختار أن يمسك يدي بالقوة ويدفعها كي تسقط السيجارة؟ توشك السيجارة على الانتهاء, ولا زال على طلبه وأنا على موقفى ثابت, حتى تجمهر الناس حولنا, محاولين الفصل بيننا تأملت وجوههم فوجدت اللحية تغطي وجوههم جميعًا . شعرت بلسعة فى أحد أصابعي, فوقع ما تبقى من السيجارة على الأرض, ونحن على حالة الجذب والشد تسود الموقف. أخذ الملتحون يبعدوني عن هذا الرجل وهو ثابت فى مكانه محافظا على ابتسامته، وكل منهم يهدئ من روعي بكلمات تأجج غضبي, قال أحدهم متلطفًا: إنه يخشى عليك, و أتبعه أخر: إن التدخين عادة سيئة وعليك التخلص منها, وأردف آخر : التدخين حرام شرعا . اختفى خصيمي عن عيني, فالتفت هنا وهناك فوجدته بعيدا تمامًا بعد أن أبعدني أنصاره عنه, فأين أنا الأن ؟ أنا خارج الميدان. عاد مؤازروه إلى أماكنهم محتفلين غير حافلين بما حدث وكأن شيئًا لم يكن, وعيني شاردة تسيطر عليَّ حالة من الذهول لما جرى أنظر إلى الميدان من بعيد بعد أن أُخرجت منه لا أعرف كيف؟. لم أفق إلا بعد سماع صوت هاتفي, إنه أحد أصدقائي اللذين كنت أصطحبهما للميدان وأنستني الفرحة إياهما, سألني عن موقعي, فأخبرته أنني خارج الميدان, فاندهش وطلبت منه أن يأتيا للمقهى الذى اعتدنا أن نرتاده سويا. مشيت فى طريقي إلى المقهى ولا زلت شارد الذهن, تتخبط قدماي, والناس من حولي تدق الطبول وتردد الأغاني التي كنت أسمعها تخرجني من حالة الحزن إلى التفاؤل, ولكنها عجزت تلك المرة. جلست على طاولتي المفضلة، أفكر فيما كان لابد أن أفعله مع هذا الرجل, و أقول في نفسي: كان لابد أن ألطمه على وجهه وأنهال عليه بالضرب, لالالا كنت أتحاور معه و أعرفه أننى أود أن أقلع عن التدخين, مسألة وقت ليس أكثر, لكنه لم يعط لي فرصة, لا وهو مال أهله ؟ كان لابد أن أطفئها فى لحيته حتى جاء القهوجي , فأحضر لي القهوة , بعد أن هدأت قليلا , فما أحلى فنجان قهوة مع سيجارة !!!!!!!!