من يملك المعلومة هو القادر على تحقيق أهدافه طبقاً لإمكانياته المتاحة وانطلاقاً من هذه القاعدة بمفهومها الواسع فإن المخابرات العامة بحكم واجباتها واختصاصاتها ومهامها الأساسية مسئولة مسئولية مباشرة عن تغطية العمق الاستراتيجى للعدو الإسرائيلى وهو حق أصيل لها دون غيرها وتشمل إسرائيل داخل حدودها السياسية ويعتبر العمق الاستراتيجى للعدو محور الصراع العربى الإسرائيلى لتمركز قواتها المسلحة داخله لاعتمادها على قوات الاحتياط نظراً لقلة التعداد السكانى، بالإضافة إلى متابعة وتقييم أوضاعها السياسية والاقتصادية والتى تنعكس انعكاساً مباشراً على موقفها العسكرى ضد الدول العربية. ولقد كان من الأسباب الحقيقية لنكسة 1967 هو بالدرجة الأولى والتى لا تقبل أى مجال للشك أو المساومة قصور المعلومات الحقيقية عن القدرات القتالية للعدو فى جميع المجالات والتى لو كانت توفرت فى ذلك الوقت للقيادة السياسية لما كانت قد غامرت فى أية لحظة بالدفع بقواتها المسلحة للصدام غير المتكافئ مع إسرائيل وأقصى ما يمكن عمله لو اضطرت التهديد بالصدام دون الدخول فيه واستمراره لأن ذلك يعتبر نوعاً من المغامرة السياسية والعسكرية للنظام السياسى المصرى الذى كان يتمتع بالقدرة على تقدير الموقف الملائم لتطور الأحداث. وانطلاقاً مما سبق فإن ثوابت الموقف الإسرائيلى تتمثل فى التالى: إن إسرائيل كيان صهيونى يمثل أطماع وأحلام الصهيونية العالمية فى الشرق الأوسط، كما يتوفر لها قوة عسكرية تتماشى تنظيمياً وإدارياً مع قلة التعداد السكانى وتعتمد بصفة رئيسية على قوات الاحتياط التى يحكمها نظام تعبئة عالى المستوى يضمن وصول قوات تعبئة الخط الأول لمواقعه القتالية فى حدود 8 ساعات من استدعائه لتحقيق نظرية الأمن الإسرائيلى، والتى تعتمد على التفوق العسكرى على كل الدول العربية مجتمعة والاحتفاظ بالأرض لتوفير العمق الاستراتيجى للدفاع عن الدولة ونقل المعركة لأرض العدو وتحقيق المبادأة والتعامل مع الفعل دون انتظار رده وتحقيق الردع العسكرى لكل الدول العربية بتوجيه الضربات الوقائية الاستباقية لتكبيدها خسائر كبيرة أكبر من قدرتها على احتمالها. إن حسابات ميزان القوى العسكرية بين إسرائيل والدول العربية لا يخضع لجداول مقارنة القوات بل يخضع لتقرير القدرات القتالية للقوات الإسرائيلية والتى تعتمد على محصلة المقومات الإيجابية من تسليح وتدريب وتطوير لرفع كفاءة قواتها المختلفة برية وبحرية وجوية، خاصة أن الإلمام بحقيقة القدرات القتالية للقوات الإسرائيلية يتطلب معايشة هذه المنظومة معايشة مستمرة ومتابعة نواياها العدوانية وممارساتها للردع خاصة أن ميزان القوى للقوات المسلحة الإسرائيلية يعتمد على المقومات التالية: إن القوات الجوية الإسرائيلية تمثل القوة الضاربة الهجومية للقوات المسلحة وأن قدراتها القتالية قادرة على تحقيق السيادة الجوية على كل الدول العربية مجتمعة. إن القوات المدرعة الإسرائيلية هى القوة الضاربة للقوات البرية القادرة بدعم وحدات المشاة الميكانيكية على إدارة المعارك التصادمية بعيدة المدى مع القيام بعمليات الالتفاف والتطويق، ولذلك كان لزاماً على المخابرات العامة إعادة هيكلتها وتنظيمها ووضع استراتيجية جديدة تتماشى مع الموقف السياسى والعسكرى بعد نكسة سنة 1967 كالتالى: أولاً: بناء قاعدة من المعلومات العسكرية عن العدو بالدرجة الأولى بعد مرحلة استقرار الجهاز بتعيين المرحوم الوزير أمين هويدى مشرفاً على الجهاز والذى كان له الفضل الأول فى إعادة بناء الجهاز، خاصة هيئة المعلومات والتقديرات بإداراتها المختلفة مع التركيز على مجموعة العمل على إسرائيل، خاصة الإدارة العسكرية بها ولقد تم الانتهاء من بناء قاعدة المعلومات العسكرية عن إسرائيل بنهاية عام 1968 من خلال الاستعانة بالدرجة الأولى بكل المعلومات العسكرية التى صدرت فى الكتب والنشرات الإسرائيلية والعالمية عن عمليات قواتها فى معارك سنة 1967 نتيجة رفع الحظر الإعلامى عن معلوماتها العسكرية قناعة منهم بأن حرب يونية سنة 1967 آخر الحروب مع الدول العربية وتم إنشاء غرفة بقطاع المعلومات تضمنت جميع المعلومات المتوفرة عن إسرائيل ودول المواجهة العربية لإسرائيل معززة بمكاتبات حقيقية وطبوغرافية لجميع الأهداف الحيوية العسكرية الإسرائيلية (مطارات، موانئ، قواعد جوية، محطات إنذار ورادار، قواعد الصواريخم/ط، ق م/ط). ثانياً: دراسة استراتيجية العدو الإسرائيلى فى التعامل مع الجبهات العربية، حيث تضمنت أنه بالنسبة للجبهة المصرية فإن الأوضاع القتالية للعدو فى سيناء وارتكازها على مانع مائى عملاق إمكانية قبول إسرائيل إدارة بعض المعارك المحدودة مع القوات المصرية التى قد تنجح فى عبور قناة السويس فى المنطقة من الحد الأمامى للدفاعات الإسرائيلية «خط بارليف» وحتى غرب المضايق بالاستعانة بقوات الاحتياطيات القريبة فى النطاق التكتيكى واحتياطيات العمق التعبوى المدرعة لتحقيق أكبر خسائر بها وإجبارها على الانسحاب غرباً، أما بالنسبة للجبهة السورية فإن العدو لن يسمح مطلقاً لسوريا بإدارة المعركة معها على الهضبة السورية وضرورة العمل على إدارة المعركة ونقل المعركة خارجها حتى مشارف دمشق لعدم توفر العمق الاستراتيجى على الجبهة السورية وتهديد العمليات العسكرية على الهضبة السورية على الأمن القومى الإسرائيلى. ثالاً: متابعة الأوضاع القتالية للعدو وتحركاته ونواياه العدوانية خلال حرب الاستنزاف ورفع قدراته القتالية من تسليح وتدريب وتطوير وعملياته فى العمق التعبوى والاستراتيجى لمصر (محطة محولات هو قناطر نجع حمادى). رابعاً: وضع تصور المعركة المستقبلية مع العدو وبدء عبور قناة السويس.. لقد أدى وضوح الرؤية المصرية كحتمية الدخول فى معركة عسكرية مع العدو لتحريك الموقف السياسى إلى ضرورة وضع تصور المعركة المستقبلية مع العدو وإصراره فى تقرير معلومات فى مايو سنة 1973 تضمن التالى: إن العدو لن يسمح بإدارة معركته مع سوريا على هضبة الجولان السورية وأن تخطيطه للمعركة هو ضرورة نقلها خارج الهضبة السورية بالعمق السورى والتى قد تصل إلى مشارف دمشق. إن العدو قد يسمح بإدارة بعض المعارك المحدودة مع القوات المصرية المحدودة التى قد تنجح فى عبور قناة السويس والتصدى لها بالقوات المدرعة والمشاة الميكانيكية فى معارك تصادمية لتدميرها والقضاء عليها. إن أى هجوم للقوات المصرية شرقاً وبقوات كبيرة سيقابله عبور للقوات الإسرائيلية المدرعة والمشاة الميكانيكية من خلال المعارك التصادمية بعيدة المدى للقيام بالالتفاف وتطويق القوات المصرية لتحقيق التالى: إرباك القيادات المصرية والحد من القوة الهجومية للقوات المصرية شرقاً واستنزاف قدراتها فى معارك تصادمية بعيدة المدى لزيادة خسائرها. فتح ثغرة فى حائط صواريخ الدفاع الجوى غرب القناة لتحقيق حرية الحركة للقوات الجوية الإسرائيلية للحصول على السيطرة الجوية على أرض المعركة ودعم معارك القوات البرية للحصول على المبادأة والقيام بعمليات المعارك التصادمية والالتفاف والتطويق للقوات المدرعة الإسرائيلية. خامساً: تقدير موقوف رد الفعل الإسرائيلى للحشد العسكرى المصرى على جبهة القناة خلال المشروع التدريبى اعتباراً من أول أكتوبر 1973 وكانت نتائجه أنه رغم الحشد العسكرى المصرى الذى قد يتحول إلى عمليات هجومية ضد إسرائيل فإن لديها قناعة ثابتة بأن القوات المسلحة المصرية غير قادرة على القيام بعمليات هجومية مؤثرة ضدها وأن القوات الإسرائيلية فى سيناء قادرة على صد أية هجمات مصرية وإلحاق خسائر كبيرة بها وإجبارها على الانسحاب غرباً مع قدرتها على القيام بعمليات الالتفاف والتطويق شرق وغرب القناة لتحقيق هذا الهدف طبقاً لتطور الموقف (تقدير المخابرات الحربية الاستراتيجية بقيادة العميد إلياهو زعيرا) مع استبعاده التنسيق مع سوريا. سادساً: متابعة تطور معركة العبور اعتباراً من يوم 6 أكتوبر وحتى وقف إطلاق النيران يوم 25 أكتوبر سنة 1973 حققنا من إسرائيل وتعليقاً على أهم التطورات والأحداث فى هذه الفترة فإننا نشير إلى التالى: فتح القيادة السياسية قناة اتصال سياسية خاصة عن طريق المخابرات العامة مع د. كسينجر، وزير خارجية الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأبلغته أن مصر لا تعتزم تعميق الاشتباكات أو توسيع المواجهة واختلاف التفسيرات والتعليقات حول هذه الرسالة بين المفهوم المصرى والمفهوم الأمريكى لها وانتقدتها المصادر العسكرية والسياسية المصرية لمردودها السلبى على الموقف العسكرى على الجبهة السورية المصرية. مطالبة هيئة عمليات القوات المسلحة تطوير الهجوم والضغط المستمر على الفريق أول أحمد إسماعيل للتصديق على تنفيذه لتحقيق الهدف الاستراتيجى لاحتلال المضايق باعتباره من المبادئ الأساسية المقررة والتى لا خلاف عليها فى الخطة إلى حد اتهامه بأن هذا الهدف غير وارد فى تصوره عن المعركة ونظراً لأهمية وحساسية هذا الموضوع فإنه يحتاج إلى تحليله عسكرياً فى ضوء العقيدة الدفاعية الإسرائيلية لوضع حد لهذه الاتهامات وإرساء قاعدة مهمة عن هذه العقيدة الإسرائيلية كالتالى: إن رأى الفريق أول أحمد إسماعيل كان حكيماً ينبع من معايشته وقت أن كان رئيساً للمخابرات العامة للقدرات القتالية للعدو وخاصة الجوية منها لاقتناعه بأن الخرج من مظلة حائط الصواريخ المضادة للطائرات الإسرائيلية والممتد لمسافة حوالى 15كم شرق القناة يشكل خطورة بالغة على القوات المصرية ويعرضها لخسائر كبيرة ولابد من المحافظة بصفة مستمرة على كفاءتها، الأمر الذى تطلب وقفة تعبوية ثم يلى ذلك تطوير الهجوم طبقاً لتطور الموقف. إن مطالبة هيئة عمليات القوات المسلحة بتطوير الهجوم للاستيلاء على المضايق واستناداً على أن الالتحام مع قوات العدو يحد من تأثير السلاح الجوى الإسرائيلى فإن هذا الرأى مردود عليه بأن هذا الإجراء متحقق ويكون صحيحاً فى ظل الدفاعات الثابتة عموماً ولكن العدو يعتمد فى استراتيجيته الدفاعية على الدفاع المتحرك والذى يعتمد على القوات المدرعة والمشاة الميكانيكية ولن يمكن العدو القوات المصرية من الالتحام مع قواته لتوفير الظروف المناسبة لتدخل القوات الجوية الإسرائيلية للاستفادة من قدراتها الهجومية غير المحدودة فى المعركة التى تستمر مصدرتهديد مباشراً وحاسماً للقوات المصرية خارج مدى حائط الصواريخ المضاد للطائرات الإسرائيلية «15كم شرق القناة». وبالرغم مما سبق فلقد اتخذت القيادة السياسية قراراً بتطوير الهجوم شرقاً يوم 4 أكتوبر والذى كان مبرراته العسكرية تخفيف الضغط العسكرى الإسرائيلى على سوريا الذى توقف الهجوم الإسرائيلى عليها يوم 13 أكتوبر بتعليمات من د. كسينجر لعدم فتح جبهة قتال مع الأردن والتى حركت لواء مدرعاً للتدخل فى المعركة وترتب على هذا القرار واستمراره عبور الفرقة 21 مدرعة إلى شرق القناة وهو ما أدى إلى خلل واتزان الدفاعات غرب القناة ولقد كان لفشل تطوير الهجوم فى تحقيق أهدافه مقدمة للاختراق الإسرائيلى فى منطقة الدفرسوار ساعد فى استمراره ونجاحه قصور المعلومات عن عمليات العدو القتالية لفتح الممر بين الجيشين للوصول إلى الشاطئ الشرقى لقناة السويس وعدم التنبؤ بالنوايا العدوانية للعدو فى هذه المنطقة وغموض الموقف فيها ومفاجآته بالعبور إلى غرب القناة. صباح يوم 16 أكتوبر بقوة تقدر بلواء مدرع + كتيبة مظلات تم رصدها من نقط الملاحظة بأنها 7 دبابات + 4 عربات مدرعة واستمر تدفق القوات الإسرائيلية فى منطقة الدفرسوار حتى وصل حجم القوات الإسرائيلية مجموعة عمليات (3 لواء مدرع) ونجاحه فى تدمير مواقع حائط الصواريخ المضاد للطائرات فى هذه المنطقة وفتح ثغرة فيه وتدخل الطيران الإسرائيلى لمساندة معركة القوات البرية وأصبح الموقف خارج السيطرة حتى تمت الموافقة المصرية على وقف إطلاق النيران وصدوره من مجلس الأمن صباح يوم 22 أكتوبر سنة 1973 ومع ذلك فلقد استمرت القوات الإسرائيلية فى تقدمها لتطويق الإسماعيلية إلا أنها فشلت فى تحقيقه وحاولت أيضاً بالنسبة لمدينة السويس إلا أنها فشلت أيضاً ووافقت إسرائيل صباح يوم 25 أكتوبر على وقف إطلاق النيران وبدء مباحثات ك101 على طريق القاهرةالسويس يوم 28 أكتوبر سنة 1973. ومما لا شك فيه فإن القيادة السياسية المصرية كان لديها ثوابت شخصية بعد نجاح القوات المسلحة المصرية فى اقتحام قناة السويس والاستيلاء على خط بارليف وتعزيز الدفاعات شرق القناة وما ترتب عليه من تحريك الموقف السياسى لاهتمام الولاياتالمتحدة بالموقف على الجبهة المصرية وبدء القيادة السياسية بالعمل على تغذية هذا الاتجاه على النحو التالى: توجيه القيادة السياسية رسالة إلى د. كسينجر يوم 7 أكتوبر تضمنت عدم توسيع المواجهة أو تعميق الاشتباكات. تطوير الهجوم بعبور الفرقة 21 مدرعة برغم انعدام نتائجه العسكرية لاستمرار تصعيد الموقف عسكرياً على الجبهة المصرية للمحافظة على قوة الدفع السياسى للموقف المصرى لتحقيق أهدافه من المعركة واستمرار الضغط على الموقف الإسرائيلى والأمريكى بصفة خاصة. الحصول على دعم الدول العربية المنتجة للبترول لاستخدام سلاح البترول لدعم الموقف العسكرى وفتح جبهة اقتصادية جديدة للضغط على الدول الغربيةوالولاياتالمتحدةالأمريكية والذى أدى تفعيله بجانب العمل العسكرى إلى قلب ميزان القوى السياسية والدبلوماسية ضد إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية وشكل سلاحاً ذا فاعلية فى المعركة. وبالرغم من نجاح استراتيجية القيادة السياسية فى تحقيق أهدافها السابقة إلا أن الثمن العسكرى كان غالياً بتطوير الهجوم ومحاولة الخروج من مظلة حائط الصواريخ شرق القناة واستمرار نتائجه السلبية غرب القناة فى منطقة الدفرسوار. لواء محمد رشاد وكيل المخابرات العامة سابقاً رئيس ملف الشئون العسكرية الإسرائيلية بعد نكسة 1967 وحتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979