برحيل أسامة الباز، المستشار السياسى للرئيس الأسبق حسنى مبارك مؤخرا تكون مصر قد فقدت واحدا من الدبلوماسيين العظام، الذين تركوا علامة بارزة فى سجل الدبلوماسية المصرية الحافل امثال ابراهيم كامل ومحمود رياض ومحمد صلاح الدين ومحمود فوزى واسماعيل فهمى وعمرو موسى، وقد امتاز أسامة الباز عن هؤلاء جميعا بتواضعه الشديد وبساطته وعشقه للثقافة والفن، حتى إنه كان يستقل المترو أحيانا ويمشى فى الشوارع متجولا ذاهبا الى سينما أو مسرح أو فى طريقه لافتتاح معرض فن تشكيلى، ولكل هذه الصفات استحق عن جدارة لقب «الدبلوماسى النبيل». ولد أسامة الباز فى العام 1931، وهو شقيق عالم الجيولوجيا في وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» الدكتور فاروق الباز. وكان الفقيد الراحل أحد مستشاري مركز الدراسات الإسرائيلية والفلسطينية بمؤسسة الأهرام، وعمل مديرًا لمكتب الأمين الأول للجنة المركزية للشئون الخارجية، ثم مقررًا للجنة الشئون الخارجية المنبثقة من اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، ومديرًا للمعهد الدبلوماسي، ومديرًا لمكتب نائب رئيس الجمهورية، ثم مديرًا لمكتب رئيس الجمهورية للشئون السياسية ووكيل أول وزارة الخارجية. بالنسبة لى أذكر اننى التقيت الراحل أسامة الباز لأول مرة بالصدفة فى مطلع التسعينات من القرن الماضى فى احد الفنادق الشهيرة بالقاهرة المطلة على النيل، كنت وقتها ذاهبا لاجراء حوار صحفى مع الشاعر العراقى الكبير الراحل عبد الوهاب البياتى، وفوجئت بأسامة الباز امامى يتجول فى بهو الفندق مرتديا قميصا ابيض وبنطلونا أسود حول محلات الملابس والاكسسوارات والمشغولات الفضية والذهبية، فألقيت عليه تحية الصباح وسرعان ما تعارفنا كاننى أعرفه منذ سنوات، أردت الانصراف لكى أترك له حرية الحركة ولكى يبقى مع عالمه الخاص فطلب منى البقاء لأنه يريد رأيى فى قميص يود شراءه، وعندما ذهب للبائع اكتشفت من الحوار بينهما انه خبير عالمى فى انواع الملابس وماركاتها وألوانها وخطوطها، لأودعه على أمل فى لقاء آخر جاء سريعا فى أحد المعارض الفنية التشكيلية بالزمالك. ولد الدكتور أسامة الباز بقرية طوخ الأقلام، إحدى قرى محافظة الدقهلية، وحصل على ليسانس الحقوق عام 1954، ودكتوراه في القانون العام من جامعة هارفارد بأمريكا عام 1962، وقد بدأ حياته العملية بالعمل وكيلا للنيابة ثم عين بوزارة الخارجية سكرتيرًا ثانيًا عام 1958، ووكيلا للمعهد الدبلوماسي ثم مستشارًا سياسيًا لوزير الخارجية، ويعد أصغر من حصل على درجة سفير عام 1975. المتتبع لسيرة أسامة الباز السياسية والمهنية يلاحظ أن المستشار السياسى للرئيس الأسبق مبارك مر بتجارب ومحطات عديدة، كان ابرزها احتجازه فى الكونغو فى ستينات القرن الماضى ضمن البعثة الدبلوماسية المصرية هناك لمدة 40 يوما بسبب الحرب الأهلية هناك، وبعد الافراج عنه بدأ نجمه يلمع فى الحقل الدبلوماسى المصرى، ثم ذاع صيته اكثر بعد نكسة يونيو 1967، أذكر اننى قرأت فى مذكرات بطرس غالى – وزير الدولة للشئون الخارجية وأمين عام الأممالمتحدة فيما بعد - أن عبد الناصر اصيب بصدمة كبيرة من الهزيمة المروعة، فطلب اعداد دراسة شاملة عن اسرائيل تشمل العسكرية والمجتمع والأحزاب وعلاقتها بالغرب لمحاولة فهم ما جرى، واختار بطرس غالى أسامة الباز للقيام بالمهمة، وبالفعل أعد دراسة علمية وافية، واعجب بها عبد الناصر كثيرا، وسأل عن الباحث الذى قام بها فقيل له إنه «أسامة الباز». ومن المحطات المهمة فى حياة الباز ايضا اتفاقية السلام بين مصر واسرائيل 1979، وقد تردد انه كان كثير الخلاف مع السادات حول بعض بنود الاتفاقية وفى كتابه «كل رجال الرئيس» يذكر الكاتب عادل حمودة: «ومن نوادر من يحكى عما جرى فى كامب ديفيد أن المشاركين فى المفاوضات كانوا يخافون على السادات من ضغوط أسامة الباز، ووصل الأمر إلى أن اعتقدوا ذات مرة أن السادات مات بالفعل من ضغوط أسامة، وذهبوا إلى مكان إقامته ليطمئنوا عليه. ولم تكن الأضواء فقط هى التى أتت لأسامة الباز بعد مفاوضات كامب ديفيد، ولكنه عاد منها وهو المستشار السياسى للرئيس السادات.. وهو المنصب الذى لازمه بعد ذلك فى عهد الرئيس مبارك.. وهو كذلك المفتاح الذى يمكن أن نفتح به أسرار العلاقة بينهما» وبخلاف اتفاقية السلام، تولى أسامة الباز الاشراف على الملف الاسرائيلى – الفلسطينى لمدة طويلة، وبعد رحيله قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، منح الفقيد، وسامًا رفيعًا تقديرًا لجهوده في خدمة القضية الفلسطينية والقضايا العربية. ويعتبر أسامة الباز هو خازن أسرار مبارك والسياسة الخارجية المصرية طيلة ثلاثة عقود تولى خلالها منصب المستشار السياسى للرئيس مبارك ومن أشهر المواقف التى ارتبطت باسم الباز، موقفه الرافض بشدة لغزو السودان وهو القرار الذى اتخذه مبارك عقب المحاولة الفاشلة لاغتياله فى إثيوبيا وتورط قيادات سودانية فى المؤامرة فى العام 1995 ، وطوال مدة عمله مستشارا سياسيا لمبارك، كان الباز مثارا للجدل والنقاش حول دوره وشخصيته، حيث اتهمه البعض بجمود الأوضاع والوقوف ضد عدم تجديد النخبة السياسية والثقافية المصرية وأن كل همه كان استقرار نظام الحكم وبقاء مبارك فى السلطة بدليل انه لم يحاول اذابة الجليد بين الحزب الوطنى واحزاب المعارضة، فى حين يرى المدافعون عنه انه كان صاحب مواقف بطولية فى التصدى لجبروت أحمد عز وحسين سالم ورفض حكومة رجال الاعمال والوقوف ضد مشروع التوريث، وانه كان الوحيد الذى خاطب جمال مبارك ب «جيمى» وكل هذا دفع مبارك الى الاستغناء عنه فى العام 2005 ليلتزم الصمت بعدها، وحيث اشتعلت ثورة يناير 2011 كان اول المؤيدين لها، وقد تزوج الفقيد الراحل من الفنانة نبيلة عبيد ومن الاعلامية أميمة تمام. رحم الله أسامة الباز «الدبلوماسى النبيل».