أصابتنى الفجيعة عندما علمت بنبأ وفاة أستاذى الكبير والمفكر العربى النابه الدكتور محمود على مكى الذى أسعدنى وشرفنى أن أكون تلميذاً بين يديه ضمن تلاميذ كثر فى كلية الآداب بجامعة القاهرة فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.. «مكى» المفكر العربى الراشد الذى تخصص فى أدب الأندلسيات كان واحداً من العلماء العرب الذى درس وألف فى فكر الأندلس خلال فترة حكم الأمويين لها والفتوحات الإسلامية العظيمة التى وصلت إلى أوروبا، لقد ظل حكم العرب للأندلس مايزيد على ثمانمائة عام، تركوا خلالها العديد من البصمات فى كل شىء حتى تآمرت الدول الاستعمارية وضاعت الأندلس. محمود مكى كان واحداً من الذين تخصصوا فى تاريخ وأدب الأندلس، وترك مؤلفات عديدة عنها، تعد تراثاً ونبراساً لكل من يريد أن يعرف حقيقة هذه الحقبة من خلال حكم الأمويين له.. كنت مع كل الزملاء فى كلية الآداب حريصاً جداً على التواصل مع محمود على مكى الذى كان يجلس معنا بعيداً عن زمن المحاضرات عن الأدب الأندلسى، يناقشنا ونناقشه ويطلب منا قراءات كثيرة له ولغيره ممن تخصصوا فى هذا الاتجاه.. والمعروف أن محمود على مكى هو واحد من تلاميذ المفكر العظيم طه حسين، وكان لعميد الأدب العربى رؤيته الثاقبة عندما ابتعث مكى الى إسبانيا فى أوائل الخمسينيات بعد حصوله على درجة الليسانس للحصول على الماجستير والدكتوراه فى الأدب الأندلسى من إسبانيا، قلعة العرب الثقافية خلال فترة حكم العرب الأمويين لها. وأذكر فى هذا الصدد أننى سألت «مكى» فى إحدى المحاضرات عام 1980 هل كنت على رغبة لدراسة هذا الاتجاه، أجابنى: «يازين الدين»، وهل هناك أحد يرفض للعميد يقصد طه حسين طلباً. إن العبقرى المفكر طه حسين كان يرى فى كل طالب اتجاهه الفكرى والسياسى وكان يقوم بتنشيطه، مثلما أرى فيك أنك تعشق الإعلام والصحافة. وأذكر فى هذا اليوم أن زملائى خاصة الطالبات ثرن علىَّ لظنهن أننى أعطل «مكى» عن أفكاره. لم يكن هناك كتاب مقرر علينا فى دراسة الأدب الأندلسى ولا فى أى مادة أخرى فى كلية الآداب.. كما هو واقع الآن إنما كانت الأمور عبارة عن عدد من القضايا والأفكار والأبحاث نقوم بها ويناقشنا فيها المفكرون العظام الذين كانوا ينتسبون الى كلية الآداب أمثال شوقى ضيف ويوسف خليف ومحمود على مكى وعبدالمحسن طه بدر وعبدالمنعم تليمة وجابرعصفور وغيرهم من تلاميذهم أمثال على البحراوى، وحامد نصر أبوزيد، وصبرى المتولى الذى تخصص فى علم ابن تيمية. يرحم الله المفكر العربى الكبير الدكتور محمود على مكى الذى أثرى المكتبة العربية والإسبانية بمؤلفاته الغزيرة وفكره النابغ الذى بات نبراساً لكل من يريد أن يعرف شيئاً عن الأندلس وحكم العرب لها وتاريخها السياسى والفكرى والعلمى.. ولم يكن عالماً فقط بالشئون التاريخية بل كان دارساً نابهاً للأدب الإسبانى والسرقات الكبرى التى تمت من الأدب الأندلسى.. حتى إن العلماء الإسبان لا ينكرون فضل هذا الرجل.. رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح الجنان نظير ما قدمه من علم وفكر للبشرية جمعاء.